رجاء نقاش والعروبة
قبل اكثر من نصف قرن بدأ رجاء النقاش رحلته مع الكلمة. ومن مقالاته الأولى في «الآداب» البيروتية تعرّفنا إليه، كاتباً عروبيّ النزعة، والفكر، والروح، وناقداً يحمل في إهابه صوتاً مختلفاً. فهو إذ يقف مع الجديد، وينادي بالتجديد، كان يتصدى بروحه النقدية وبقلمه النافذ الكلمات، لما عُدّ يومها «تيارات متطرفة»، إن في الأدب أو في الفكر والسياسة.
ويوم كتب مقدمته المطوّلة للديوان الأول لرفيق دربه الثقافي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي «مدينة بلا قلب»، وقعنا، نحن قراءهما من خلال تلك المقدمة في أسر «الناقد الواقعي» الذي ينظر في الأدب من خلال الواقع، ويضمّ الأدب والإنسان الى هذا الواقع، جاعلاً من الإنسان قضية، ومن الواقع مرجعاً ومعاداً للاثنين، الإنسان والأدب، وخرج بالاثنين الى بهاء الموقف.
وهو ربط الإنسان والأدب والفكر والواقع بمنظومة النظرة العروبية الجوهر التي كانت أساس الموقف القومي لرجاء النقاش حياة وفكراً وكتابات، كما كانت أساس الفكرة القومية ومنطلقها. ومن خلال الأدب والفكر النقدي عُرف رجاء النقاش في مصر والوطن العربي: كاتباً وناقداً عربي الموقف، بل من دعاة الموقف القومي في الثقافة.
ويوم انكسر الحلم العربي في ستينات القرن الماضي (بانهيار أول تجربة وحدوية، ثم نكسة حزيران)، وجرت محاولات تصفية ما تبقى من هذا الحلم على أرض الواقع، باتفاقية كامب ديفيد، برزت يومها «الأفكار الانعزالية» تحاصر الحلم وحامليه أكثر، فتصدى رجاء النقاش لتلك «الموجة العارضة» في كتابه: «الانعزاليون في مصر»، ناقداً أفكارهم، وكاشفاً عن «أُصولها التاريخية»، وداحضاً اطروحاتها من خلال الوقائع والحقائق التاريخية، فكان بكتابه هذا أجرأ الأصوات الناقدة المنتصرة لعروبة مصر في تلك الحقبة الصعبة.
وكما عمل على الانتصار للفكر الأصيل والفكرة الحية عمل أيضاً على إنصاف الأشخاص بإعادة ما كان لهم من تاريخ، وخصوصاً أولئك الذين كان يرى أن استمرار حضورهم رمزاً في الحياة الثقافية أمر مهم، للأفكار التي حملوها ونادوا بها. فكان كتابه «عباس محمود العقاد بين اليمين واليسار» يجلو صفحة، قد تكون غامضة أو مستورة، في حياة أديب ومفكر كالعقاد، معيداً الكثير من تفاصيل الصورة إليها، قبل أن تتبدد، وتضيع في زحمة «فوضى الأفكار» و «تداخلات الوقائع» كما ضاع الكثير، فإذا بالعقاد الذي وضعه رجاء النقاش بين تيارين متعارضين ومتناقضين، اليمين واليسار، يبدو لقارئ الكتاب بالصورة التي كان عليها في حياته السياسية والفكرية.
ويوم تعرض نجيب محفوظ لبعض حملات التشكيك، والهجوم بأفكار غير ثقافية، ما كان من رجاء النقاش إلاّ أن يكتب «في حبّ نجيب محفوظ» واقفاً من خلال هذا «العنوان العاطفي» – أو هكذا يبدو – وقفة تعاطف مع سيد الرواية العربية وعنوانها التاريخي، في قراءة متميزة لحياة الرجل وأفكاره والبعد الإبداعي لوجوده.
هذا كلّه، وكثير سواه، وهو اكثر من هذا بكثير، أنجزه رجاء النقاش في رحلة ثقافية بدأها بكتابه التأسيسي لمساره هذا «في أزمة الثقافة المصرية»، متواصلاً في رحلة ثقافية – فكرية امتدت به، ومعه، أكثر من نصف قرن. وكما كان نصف القرن ذاك حافلاً بالعطاء الثقافي والفكري في غير مستوى، كان أيضاً نصف قرن حافلاً بحروب، معلنة وخفية، على رجاء النقاش: الشاب، والرجل، والكهل، والشيخ. ولم تكن حروباً نظيفة، إن لم نقل إنها من نوع «الحروب القذرة»، تولتها أكثر من «جهة» وشخص.
إلاّ أنها، على عنفها في بعض الحالات والمراحل، لم تفتّ في عضده - كما يقال - ولا أبعدته عن طريقه الذي اتخذ فيه مساره.
إلاّ أن أكثر تلك الحروب مرارة في نفسه، وقد ظلت مرارتها في نفسه على امتداد ما أعقبها من سنوات وتحولات، هي تلك التي تعرض لها بـ «أيدي الأصحاب» و«أقلام الأصدقاء»، من الذين كان قدّم الكثيرين منهم الى الحياة الأدبية أو الصحافية. ولكن، ما أن تمكنت أيديهم من القلم، أو الموقع، حتى طعنوه من حيث لم يكن يتوقع. فما كان منه إلاّ أن يأسف، وقد أسف كثيراً، لكنه لم ييأس.
إلاّ أنه حزن طويلاً، وأحسب أنه ودعنا وهو بعد حزين!
ماجد السامرائي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد