رقصة التاريخ... خارج السجلات

18-08-2012

رقصة التاريخ... خارج السجلات

تناوب على محاصرة السيد تاريخ ورصد رقصته مفكرون وفلاسفة كانت لهم عزيمة أقوى مما كانت للمؤرخين. فكيركجور رأى التاريخ مساراً لا يضاف اليه إلاّ في حالات نادرة للغاية قطرة ضئيلة من الفكر، ولذلك حصره في التجربة الفردية وحدها. ووجده هيجل بسطاً وإثراء مستمرين للروح. ولكن يعود نيتشه وهو يبحث عن الانسان المتفوق ليقول: إن التاريخ قصة انحطاط ما هو عظيم وسقوطه في التافه، أي سقوطه في العدمية، ووراء سطحية المجتمع المتعارف عليه وتفاهته.. وراء العدمية تكمن إمكانية الانسان الاعلى وإمكانية النمط الاعلى من الوجود.
ولهذا صار من المؤكد ان الدور الزمني ليس بالضرورة يكون لأبطال التاريخ المعروفين، وأن هناك وقائع خطيرة صنعها مجهولون في حساب المقياس الظاهري للتاريخ، ولكنهم لم يحتلوا الواجهة لينالوا اهتمام التسجيل التاريخي. لأن التاريخ يضم الشخصيات ذات الأثر الايجابي والسلبي معاً بالاضافة الى الشخصيات ذات الشهرة والبريق.
ومن هنا بدأ البحث عن الفرادة في التاريخ، في التجربة الفردية تحديداً. وإذا كنا لا نستطيع تطوير الاهتمام العلمي بالتاريخ إلاّ بفضل مشاركتنا في التاريخ، أو بفضل دخول التاريخ في تكويننا، (كما اتفق هيدجر ونيتشه)، فإن الموجود البشري هو نفسه موضوع التاريخ لأنه يتألف من الزمانية. وهذا ما طرحه الشمس السخاوي (897هـ) بكل بساطة وهو يحدد موضوع التاريخ بأنه (الانسان والزمان) في كتابه (الاعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) وكذلك الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه (الشماريخ في علم التاريخ). ولكن تحديد هيدجر يشير الى ما هو أعمق إذ رأى أن المغالطة الكامنة خلف انماط الفكر الكلاسيكي عن التاريخ هي الاعتقاد بأن التاريخ يبدأ من البدائي والمتخلف... من الضعيف والعاجز. والواقع أن العكس هو الصحيح، فالبداية هي الأغرب والأقوى وما يأتي بعد ذلك ليس تطوراً وإنما تسطيحاً ينتج من الانتشار الكمي المحض، وهو عجز عن الاحتفاظ بالبداية، إذ يتم اضعافها والمبالغة فيها منظوراً اليها بوصفها حجماً وامتداداً عددياً وكمياً خالصاً.
لقد تم النظر الى التجربة الفردية (الانسانية ) في صياغة التاريخ وكتابته منذ القرن السادس عشر حيث كتب نيقولا ميكيافيللي وفرانسيسكو غويكيارديني اعمالا نظمت تاريخاً سياسياً في عالم تحدده القوانين والطموحات الانسانية. حيث تم فصل الكنسي عن المادة العلمانية للتاريخ، وقد اتضحت بانتشار تأثير عصر النهضة وتعاليمها في اوروبا. وقد اصبح التأمل في المصير الانساني والمسائل الاخلاقية التي تقف مباشرة وراء التطبيق في الحياة السياسية هو العمل الرئيس للفلاسفة لا المؤرخين. بمعنى أن التاريخ بدأ يعلن اهتمامه بالحاضر والمستقبل ليخرج من نمط الماضي. لأن التاريخ كما شبهه نيتشه هو ساعة رملية ينساب فيها الرمل من احد جانبيها الى الآخر ثم تنقلب فيعود الرمل مرة أخرى الى ما كان عليه، وعنق الزجاجة بين الوضعين هو اللحظة. وهذه هي فكرة العَود التي أستوحاها نيتشه من هيجل تحت مصطلح التكرار الذي يأتي من الحقيقة الوجودية المنقذة الى الظاهرة التاريخية الجمعية. فالتكرار تكراران. الأول: تكرار أصيل يتحرك الى الأمام وهو ينتج الاكتمال. والثاني: تكرار يخلو من الفكر ويتحرك الى الخلف ويعتمد على التذكر. لذلك فالتاريخ يسترجع من الماضي الامكانات الاصيلة للوجود البشري التي يمكن تكرارها لكي يسقطها على المستقبل.
لقد طالت إقامة السيد تاريخ في فكرة السجل منذ التدوين التاريخي الاغريقي عند هيرودوتس وثيوسيدس الى التدوين التاريخي الروماني على يد كاتو الاكبر وسالو، الى العصور الوسطى حيث أصبحت القراءة والكتابة من المهارات الحرفية لرجال الدين الذين أخذوا على عاتقهم نشر الثقافة الدينية، فاحتفظت أديرة كثيرة بتواريخ مسلسلة أو حوليات تكون عملا مجهولا لأجيال من الرهبان، الى عصر النهضة عند مكيافيللي وفرانسيسكو غويكيارديني، حتى القرن التاسع عشر على يد ليوبولد فون رانك، إذ صنع التاريخ هويته بوصفه مجالا اكاديميا مستقلا ذا منهج نقدي خاص. ولا يغفل دور الصينيين الذين دمجوا فصول التاريخ في التعليم وفق تعاليم كونفشيوس، إذ عمل العلماء بوصفهم اداريين في الدولة الصينية بعد القرن الثالث ق.م.
وقد عني المسلمون بالتاريخ. إذ ضمت أعمالهم الطرق والمناهج كافة بحيث يمكن ضم بعض الاعمال الادبية تحت مفهوم التاريخ مثل بعض اعمال الجاحظ وكتاب الاغاني. حتى مجيء ابن خلدون (808هـ) الذي اشتغل على حقيقة التاريخ ووجده خبراً عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الاحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض (المقدمة:33) لأنه وجد أن المؤرخين لم يلاحظوا أسباب الوقائع والاحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الاحاديث ولا دفعوها (فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل). وقد استدرك بعده الشمس السخاوي بأن المؤرخين كغيرهم من سائر المصنفين (في كلامهم الخمير والعفن، والسعيد من عُدت غلطاته وما اشتدت سقطاته) (الاعلان بالتوبيخ:479). وقد نظّر ابن خلدون لحركة التاريخ وتبادل الحضارات بأنها تقوم على العصبية أو على الدعوة الدينية. لكن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم... إذ أن الله ما بعث نبياً إلاّ في منَعة من قومه (تاريخ ابن خلدون، العبر، الكتاب الأول، الباب الثالث، الفصل6) فالعصبية في البداوة تحقق الحضارة، والحضارة تدمر العصبية، وتدمير العصبية يؤدي الى نهاية الحضارة.
ثم انبرى مفكرون عرب لطرح نظريات تفسر التاريخ وتؤسس لمنافذ حركية وجدت اتساقاً بين الطبيعة والتجربة الانسانية. فمالك بن نبي (1973) ارجع أية حضارة الى ثلاثة عناصر هي: (الانسان والتراب والوقت). لكن هذه العناصر لا تصنع لوحدها ناتجا حضاريا، فلا بد من عارض غير عادي يقوم بالتركــيب بينها، وهو (المركّب الحضاري) وتحديداً هو (الفــكرة الدينية) التي رافقت دائــما تركــيب الحــضارة خلال التاريخ.
ثم جاء دور السيد محمد باقر الصدر (1980) لينظر في سنن التاريخ في القرآن الكريم ويجد (أن الساحة التاريخية مثل كل الساحات الكونية ألاخرى، لها سنن وضوابط) (السنن التاريخية:71) فقد ألغى الاسلام النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية لتفسير الاحداث... وهذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى محاولة فهم التاريخ فهما علميا. لتكون النتيجة أن الدور الأول في صياغة التاريخ للانسان، فهو الذي يمسك بالفعل ويعطيه ملامحه التاريخية. فالانسان في التصور الاسلامي يشكل محور فلسفة التاريخ (سوسيولوجيا الفكر الاسلامي، د. محمود اسماعيل: 238).
فالفرد ليس تابعا دائما كما في التاريخ السردي الخيطي، وكذلك الزمان ليس زمانا حلقيا في الرؤية للحياة والكون، فهو زمان اسطوري كليا مقابلة مع الزمان الخطي في التاريخ. وعليه لا يمكن أن يكون التاريخ خطيا يحتويه التدوين ويمنع عليه التأليف. وقد افتتح ول ديورانت قصة الحضارة بقوله: إن الاقسام المنفصلة عن بعضها تلك التي يتناول كل قسم ناحية واحدة من نواحي الحياة، فتاريخ اقتصادي، وتاريخ سياسي، وتاريخ ديني، وتاريخ للفلسفة أو تاريخ للأدب، وتاريخ للعلوم، وتاريخ للموسيقى، وتاريخ للفن. إن هذه الطريقة فيها إجحاف بما في الحياة الانسانية من وحدة، وإن التاريخ يجب أن يكتب عن كل هذه الجوانب مجتمعة، كما يكتب عن كل منها منفرداً. وقد ختم قصة الحضارة بقوله: ونحن نتابع دراستنا من قرن الى قرن ازددنا يقينا بأن كتابة التاريخ الرسمي قد أسرف في تجزئتها أبوابا وفروعا، وإنه ينبغي لبعضنا أن يحاول كتابة التاريخ كلا، كما كان يعاش، في جميع وجوه الدراما المعقدة الموصولة. فهو يشير الى أن التاريخ يتحرك ويرقص هناك في المضيء المخضر المتدفق خارج السجل وليس في الزبد الذي يذهب جفاء.
السيد تاريخ لا تتوقف رقصته.. ولكنه داخل (السجل) يموت وخارجه يضيء ويتفتح، هكذا وجدته عندما طردني مدرس التاريخ من الصف في الدراسة المتوسطة وهو يحدثنا عن الثورات التي طردت الغزاة من بلادنا (وكان السيد تاريخ نائماً في السجل) وكان سؤالي الذي طردت بسببه (أستاذ! لماذا احتل الغزاة بلادنا أصلا؟). وصار السيد تاريخ عندها يرقص خارج السجل.. أمامي.. الى الآن.. مضيئاً حافلا بالبراءة والوضوح.

                                                                                                              علاوي كاظم كشيش: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...