رياض نجيب الريس: خمسون عاماً على «درب الهوى»
الجمل : لا يستقيم الحديث عن الكتاب في عيد معرضه الخمسين وعن بيروت معاً إلاّ من بدايات صغيرة، تبدأ من منتصف الخمسينيات ومطلع الستينيات، حين كنّا شباباً يافعين.كان قبلتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية في حينه محيط الجامعة الأميركية في بيروت، يبدأ من “مطعم فيصل” قبالة البوابة الرئيسية للجامعة، مروراً بمقهى “الأنكل سام” على بعد أمتار منه على زاوية شارع جان دارك، لينتهي عند “مكتبة رأس بيروت” في وسط شارع بلس مقابل مدخل مدرسة الاستعدادية. وكان لنا في عالم الثقافة اتجاهان. الاتجاه الأول غرباً نحو “مكتبة رأس بيروت”، وهي عبارة عن دكان صغير تكتظ فيه الكتب، يديره شاب اسمه عبده بركات، جنوبي من عين إبل، كان يعرف معظم كتّاب تلك الحقبة وأدبائها. الاتجاه الآخر كان شرقاً، نحو “مكتبة روكسي”، بالقرب من سينما روكسي في ساحة البرج، التي كانت عبارة عن زاروب طويل بين مدخل السينما ودكان آخر يباع فيه السندويش. وكانت “مكتبة روكسي”، التي لم يعد لها وجود اليوم بعد إعادة إعمار وسط المدينة، مخصّصة لبيع الصحف الأجنبية والمجلات وكتب الجيب الإفرنجية. وكان إلى جانب المكتبة في البرج، ورّاق وبائع صحف اشتهر في زمانه، اسمه حسن شعيب، الملقب بـ“أبو حسين”. وكنّا نقف على رصيفه لنقرأ عناوين الصحف مجاناً عنده. أما اهتمام “مكتبة روكسي” بالكتب العربية، فكان محصوراً بروايات الجيب المصرية التي كان يصدرها عمر عبد العزيز أمين عن “اللص الظريف” آرسين لوبين وغيرها من مباهج القصص البوليسية التي كانت تترجم في تلك الأيام. وكان يقصدها منا مَن كان يقرأ الصحافة الأجنبية ويهيم بالروايات البوليسية. وكنا في أغلب الأوقات نرتادها بعد الخروج من السينما ليلاً، حيث كنا نلتهم الكتب والصحف مع السندويش عند مقصف “دفوني” على الرصيف المقابل.
أما المكتبات من شارع المعرض إلى الخندق الغميق، فكانت مكاننا المفضّل للتسكّع بين الكتب المنتشرة على الأرصفة كل يوم سبت. لكن “مكتبة رأس بيروت” كان يقصدها المتأدبون أو أصحاب الطموحات الأدبية الشابة من أمثالنا. كانت تهتم في الدرجة الأولى بالكتب الأدبية. وما من مرة كنت تزور المكتبة إلاّ وجدت فيها أديباً ما. تعرّفت إلى مارون عبود هناك. وتعرفت إلى سعيد عقل هناك. وتعرفت إلى ميشال طراد هناك. وتعرفت إلى أنطون غطاس كرم هناك. وكان توفيق صايغ “يسكنها” تقريباً إذا كان في بيروت. وكان جبرا إبراهيم جبرا ومعه بدر شاكر السيّّاب ومجموعة الأدباء العراقيين، يعتبرون زيارتها كلما جاؤوا إلى بيروت، في أهمية زيارة صرح ثقافي. أما يوسف الخال وجماعة مجلة “شعر” فكانوا يعدّون “مكتبة رأس بيروت” امتداداً ثقافياً وذراعاً إعلامياً لهم. وظلت “مكتبة رأس بيروت”، بعد خمسين سنة من إنشائها وعلى الرغم من الحرب الأهلية اللبنانية، مكاننا الأثير للاطلاع على الكتب بمختلف أنواعها، وذلك بفعل إدارة فاديا جحا. وكنا إذا تكاسلنا عن النزول إلى ساحة البرج، نعرّج على “مكتبة خياط” لصاحبها بول خياط مقابل البوابة الرئيسية للجامعة الأميركية وعلى بعد خطوات من مطعم فيصل، حيث كانت تحفل بالكتب الانكليزية الجديّة والأكاديمية، وبعضها مقرّر في دروس الجامعة، التي لم تكن موجودة في مكتبة أخرى. وما زالت مكتبة خياط في مكانها القديم حتى الآن، مع الاعتراف بأنني لم أزرها منذ زمان طويل، بعد أن امتلأ شارع بلس اليوم بالورّاقين والقرطاسيين إلى جانب باعة المناقيش والهامبرغر.
في هذه السنة، يحتفل “النادي الثقافي العربي” بمرور خمسين عاماً على أول معرض للكتاب أقامه في بيروت. وعلى مدى خمسة عقود، نشأت أجيال عربية من مختلف المشارب والتوجّهات، أقبلت على الكتب بنهم شديد، بسبب إصرار النادي الثقافي العربي على اعتبار معرض الكتاب الأهم من بين نشاطاته. ومن أجل الكتاب جاءت هذه الأجيال إلى بيروت وجعلت منها محجّة للثقافة ومكاناً آمناً لإبداع الكاتب وحرية الكتاب. وإذا بالكتاب يصبح جزءاً عضوياً من حياتنا اليومية، بقدر ما أصبحت حياتنا الثقافية في لبنان تعج بالأدباء والكتّاب والمؤلفين.
وإذ يرتفع اليوم علم النادي الثقافي العربي عالياً فوق معرض الكتاب الخمسين، وإلى جانبه علم اتحاد الناشرين اللبنانيين ــــــ وهذا تطور مهم ـــــــ بات في إمكان محبّي الكتاب في العالم العربي أن يطمئنوا إلى أن الكتاب بخير ولبنان بخير.
رياض نجيب الريس
صاحب شركة “رياض الريس للكتب والنشر”
الجمل
إضافة تعليق جديد