زيــارة إلــى منــزل لوركــا
وأخيرا وصلت الى منزل شاعر إسبانيا الأشهر فريدريكو غارسيا لوركا في غرناطة التي غناها طويلا في قصائده، غرناطة الأندلس، عالم ينطوي على سحر تاريخي، تمثل في أندلسيا أو أندولثيا كما يلفظها اللسان الناطق بالإسبانية،
إنها أندلس العرب القدامى، الفاتحين الأوائل، عشاق المغامرات البحرية المفتوحة على الدهشة، على الشراع المسافر في ريح أولى، ريح البدايات والكشوفات الجمالية التي استنبطت عوالم تتدثر بالفرادة والبراءة والتراب البكر، التراب الجديد المصحوب بأرض جديدة، وبحر طازج يكتنف سواحل متوسطية
ومدنا مغموسة بالدفء، بحرها زاخر بالدلع والخفة وبشموس عارية تحتمي بالذهب، إنها أندلس من خرز وحصى وصخور مرقطة بالنمش، انها من عرعر وحور، من زيتون وليمون وطعم يندّ عن البرتقال، أندلس من شآم ومرايا، من سهب ووهاد مرقشة بأغاني الغجر وأنين القياثير وبكاء النايات ورعشة الهبوب المندلعة من رقصة الفلامنكو، كعب يدقّ أرض الأندلس، ليلد الإيقاع، لتنبثق الموسيقى من موجة، من حجر، من نبع، رايات حمراء تراقص النسيم والثيران في الملاعب الكبيرة، هذا ما تجود به الأندلس الآن، لتنسل منها نظائر رقيقة كأشبيلية وقرطبة وبلنسيا، وأليكانتي، وابن المدينة وبن سالم ومايوركا، موطن الرحالة والكاتب الأندلسي القديم ابن جبير، اندلس الشعراء ابن زيدون ولسان الدين الخطيب ودراج بن قسطل والعشرات غيرهم.
إذاً على هذه الأرض الجميلة كنت أتنقل، قاطعا مَلَقَة الكبيرة، مركز المقاطعة الذي يضم كل تلك المدن التي ذكرتها، وهي مدينة مدللة يلحس الضوء سقوفها القرميدية ويقبل البحر أرصفتها وكورنيشها الطويل الذي لم أر مثله في حياتي،
يبدأ من الحلم لينتهي في الحقيقة، والحقيقة هي ملقة، أي ملكة بالعربية. جئتها قادما من مدينة مجاز والكلمة واضحة المعنى في العربية، الاسبانيون يسمونها ميخاس لأن حرف الجي اللاتيني يتحول الى حرف الخاء في لغتهم، وميخاس هذه، مدينة ناعمة وحريرية، منقطة بأزهار النسرين وسعفات النخيل واشجار الصنوبر التي تملأ كل أفق اسبانيا، تلك النخلة التي جلبها معه عبد الرحمن الداخل من دمشق الى منفاه الإسباني الذي سيصبح جنة الدنيا، وهي جنان حقا، ماربيّه، فانغويرولا، وهما مدينتان نائمتان في البحر، تلتحفان الرمال الماسية، ولا تبكيان على مجد غابر، بل تقدران ذلك الزمن العابر الذي خلف لهما كل هذا البهاء الذي يدرّ مالا سياحيا على مدار الساعة، وخصوصا في قرطبة وجبل طارق وأشبيلية وغرناطة حيث قصر الحمراء والقصبة وهما آخر ما تبقى للأمير أبي عبد الله الصغير من حصون قبل أسره ونهايته المحزنة في هذا المكان وإطلاق زفرته الأخيرة، ندما وأسى ولوعة على ملْك سيضيع الى الأبد.
يقوم القصر القلعة على هضبة عالية شبه جبلية، حصونها والقصبة بالذات تشرف وتطل على كل ممالك الأندلس آنذاك، انه مكان حصين، هكذا بدا لنا، قائما في المدى، يحتضن الأفق المعطر، هنا الهواء مخملي، مرشوس بروائح الأزهار، تخترقه هبات منبثقة من شجيرات الصنوبر والسرو والأترج المتواري في سحابة وردية، والقصبة هذه تبدو للرائي اليها حامية كانت تحمي الترف الناعم في قصر الحمراء، تحمي الممالك والملْك والبحبوحة الأندلسية المتكئة على الغناء والموسيقى والشعر والابتكارات التي برزت في هذا الفن الرفيع كالموشح والمربع
والاستنباطات الفنية الأخرى التي رافقت اللحن والغناء، وبذا كانت تتسم بالرقة والإنسيابية والطراوة عكس ما كان يحدث في الشرق، خصوصا على صعيد الشعر والغناء، فالشعر كان وليد هذه الأجواء الطليلة، الرطبة، المزركشة بالندى وضوع الخمائل، وهو بالتأكيد كان يختلف عن تلك البيئة شبه الصحراوية التي كانت تطبع قصائد الفحول من الشعراء في المشرق العربي.
النسيم المتدفق من قصر الحمراء وهو يحمل موجته العطرية يرشدنا الى المكان، ندلف الى البهاء، بعد أن تركنا وراءنا القصبة العالية التي ستسمى تيمناً باسمها العديد من المدن المغاربية في تونس والجزائر والمغرب وليبيا. رفيقتي في الرحلة تتوقف أمام المدخل الذي يحمل جملة سنراها على جدران الأواوين
وأقواسها الحجرية وفي مداخل الغرف وعلى حائط الطوار الملحق بالقصر وهي جملة «لا غالب إلا الله»، بعد ذلك تخرج الكاميرا وتلتقط صورة للمسطور على الجدار، أضحك وأقول لها: ما الفائدة، لقد غُلبوا بالرغم مما هو مكتوب بأناقة زخرفية لا مثيل لها، مما أهلها للبقاء بعد كل تلك القرون التي عبرت؟ تعبر كلامي بكاميرتها لتتجه نحو أجمة نائمة في حوش القصر قربها حوض ماء شذري، وكوى ربما كانت تستخدم للسرج والفوانيس والقناديل الزيتية الخاصة بالإضاءة، في هذه الأثناء، أتلع رقبتي وأميل الى حائط صلصالي ذي لون ارجواني، أشم الحائط ثم أتفرس في الحجر، هنا تتدخل رفيقتي في الرحلة لتقول: «بدأت تحن الى زمن الأجداد» فأجيبها: «إنه فعل شاعري ليس إلا».
ثم نكمل المشوار في هذه الأبهاء التاريخية ولسان حالها يقول: هنا كانت الجواري يرقصن ويغنين، هنا كان ينام الدلع، وينعس الغنج بين هذه الطنف البارزة في السقوف وبين هذه النقوش السارحة في باحات القصر، وأتساءل هل عزف زرياب في هذا المكان الحالم، وفي أي زاوية من زوايا هذا القصر الكبير على صوت وتره وانبلج مطلع أغنية من حنجرته الموصلية؟ وكم من الشعراء قرأوا وسط هذه التكايا الحجرية؟ وأي نوع من الشراب كانوا يتناولون، وهم ثملون بين المدامة والكأس والنديم ووقع خلخال لجارية رومية؟
هنا أخرج من سرحاني، وأنسل من بين عالم الأرابيسك الذي يرقش القصر ويضفي على المكان سحرا من أجواء الف ليلة وليلة، أنظر الى السماء أجد أن الوقت بدأ يتداركنا، والشمس أخذت تنحسر عن مساحة القصر، نخرج من التاريخ مسرعين الى الواقع، فنحن جئنا من مكان بعيد، وفي مسيرتنا قطعنا قرابة الخمس مدن محمولين بين قطارات وباصات وأنفقنا اربع ساعات في الوصول الى هنا، وعلينا أن نبذل في العودة نظير هذا الوقت، خصوصا أني كنت مصمما على زيارة منزل لوركا، من هنا كان علينا أن نسرع لنقتصد في الوقت. عند مدخل سور القصر استقللنا تاكسي فهو يقع على مرمى عشرين دقيقة، قلنا الى السائق الغرناطي الشاب الى منزل لوركا، هنا الكل في غرناطة يعرف منزل لوركا، هذا الشاعر الرقيق الذي ستقتله كتائب فرانكو الفاشية ذات فجر أندلسي حزين، قال لوركا في احدى قصائده قبل مقتلته الدموية ـ التراجيدية «حين أموت دعوا الشرفة مفتوحة».
نصل الى المكان الماثل في حديقة كبيرة «بارك لوركا»، من بعيد يظهر المنزل الذي لا يوجد غيره في هذا الفضاء الأخضر، نحن إذاً في مواجهة المنزل ـ المتحف، منزل أبيض بأبواب وشرفات وشبابيك خضراء، هنا تطل في رأسي مباشرة قصيدته المعروفة «خضراء» التي أثرت في شعراء عرب كثيرين أبرزهم السياب وسعدي يوسف ونزار قباني، وأثر مسرحه في صلاح عبد الصبور.
في مدخل المنزل، نرى مكتبا صغيرا، يديره رجل، ونرى ثمة شبانا ينتظرون المرشدة التي هبطت من سلم خشبي أخضر لتقود الجميع الى المنزل، ننضم الى الجمع الذي يبدو انه جاء من مدن إسبانية مختلفة ليزور هذا الموقع الرهيف، بخفر وصمت نجوس صالة الطبقة الأولى من المنزل المتكون من طابقين، بهمس نتكلم ربما لكي لا نوقظ الروح المرفرفة للوركا في هذا المكان، الصالة تضم أريكة من قماش مبطنة بكتان سميك فضلا عن طاولة صغيرة، وهي قد تكون معدة للزيارات السريعة أو مكان استراحة قصيرة، على جانبها الأيسر حاويات زجاجية كالتي نراها في المتاحف، من تلك التي تضم مقتنيات ثمينة ذات قوائم خشبية، باستطاعتك أن تنحني قليلا عليها لتقرأ، انها نماذج من مخطوطات لوركا الشعرية، كتبت على ورق شاموا صغير الحجم، جذاب وبقلم رصاص، مصحوب بتحكيك وشطب لبعض الأبيات وتغيير ترافقه أسهم تشير الى الدلالة الصحيحة، هذا هو عمل الشعراء حيثما كانوا، الخط كما بدا لنا ناحلا كصاحبه وفاتنا في امتداداته واستداراته واستطالاته وهو يمر حاملا حبره البنفسجي الفاتح، رهبة تتملكني خليطتها البهجة وأنا أرى قصائد من ديوانه الأول «كتاب الأشعار» و«الأغنية العميقة» و«أغان» و«حكايا غجرية» الديوان فائق الشهرة والذي كرسه كشاعر كبير لأسبانيا، ناهيك عن «شاعر في نيويورك» الديوان الذي قدم فيه نقلة فنية وجوهرية في مسيرة عمله الشعري، حاملا نكهة شعرية مختلفة، فيها مس من الفانتازيا والبعد السوريالي والغرائبي الذي تسلل اليه من خلال صداقته مع عمالقة الفن الأندلسيين كسلفادور دالي ولويس بونويل السينمائي السريالي وبيكاسو. حين نفرغ من الشعر، تواجهنا مباشرة، أعمال لوركا التشكيلية، محتلة مساحة من غرفة مفتوحة، هذه اللوحات بدت، مثل قوالب حلوى ولكنها لا تؤكل الا بالعين، كأنها قوارب ملونة من ورق، كأنها تقول لخوان ميرو: أنا أيضا لاعب طفولي كبير، كيف لا وهو الذي كتب عنه العديد من المحاضرات الجمالية التي درست فنه وشرحته بوسائل تعبير شعرية ونقدية، في الجدار الذي يقابله ثمة لوحات رسمت كهدايا من دالي وغيره من الفنانين، حين نخرج من هاتين الغرفتين نخطو قليلا لنكون في صالة رحبة تقوم في الجانب الأيمن من المنزل في أثاث خفيف، ولكن اللافت فيها هو بيانو لوركا ذو اللون الكستنائي الداكن المصقول باليود وهو يتوسط الصالة مع كرسي قصير وذي نصف استدارة، النوتة الورقية، لم تزل ههنا، وهي تحمل مغزى اصابع لوركا وختمها، ذلك الختم الذي خلف تآليف موسيقية عديدة، فلوركا كان يعد في بدايات حياته موسيقيا أكثر منه شاعرا، له مقطوعات ومنوعات لحنية عديدة كان في شبابه يعزفها وهو يجوب القرى والمدائن الأندلسية ليقدمها هناك، انها الموهبة الفريدة والمتشعبة، أي أننا أمام موسيقي محترف ورسام ومؤلف مسرحي وشاعر مشهور، ومن هنا رقة أدائه الشعري والعذوبة الربانية التي رافقت مجمل أشعاره المبكرة واللاحقة.
نصعد الى الطبقة الثانية، هذه غرفة نوم لوركا قالت المرشدة، السرير عليه شرشف قطني مخطط ووسادة صغيرة بوسعها احتواء أحلام لوركا ومشاريعه المختلفة، السرير من خشب الزين وبدا صغيرا كأنه عد لصبي لا لرجل، هنا تجهش رفيقتي بالبكاء حــين تراه، وتتســاءل كيف واتت القدرة كتائب القــتلة أن تسكت هذه الشفافية الزاخرة بالحياة والفــن، وكيف استطاع القاتل وضع حد لنبع الجمال واغتيال المجرى؟ أمامه يقوم مكتب لوركا وهو متــكون من طاولة وكرسي خشبيين مائلين الى الاصفــرار الكهرماني الغامق، إذاً ها هنا كتب لوركا قصائده الرائعة التي تحدث عنها النقد الإسبــاني طويلا وحتى الآن، مثل قصائد الغزل وقصــائد التماريت، المكان يوحي بهذا، انه لم يزل مفــتوحا على الحقول، على حقــول التماريت والليمون والزيتون، وعلى الطعم الكــامن في رائحة الأشجار، نترك ظل لوركا نائما في غرفته، لنأتي الى المطبخ. في المطبخ طاولة طعام كبيرة مع كراسي، تدل على عدد كبير للعائلة، وثمة صحون خزفية محفوظة في خزائن المطبخ تشيع في هذا المكان روائح قديمة للتاريخ، مما جعله يترك أثرا على الصبغ الذي راح يتآكل ويتقشر مع
عطن الجص والحجر القديم، أنفاس على الجدار للوركا، ربما لأمه وأبيه، ورائحة الأحطاب ما زالت تشيع في أرجاء الفرن الفحمي الصديء، كل شيء يومئ بالقدامة، سوى الحنفية البرونزية اللمـــاعة، وهــذه الصورة لعائلة لوركا وهم يجلسون خارج المــنزل في يوم مشمس على كراســي طويــلة الأعناق، يشــربون ويأكلــون، وقد لاحت عليهم علائم الدعة والراحة.
هاشم شفيق (شاعر عراقي)
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد