صباح قباني: أصدقاء العمر الجميل
حين تسمع صوته الخافت الخجول في حديث إذاعي أو محاضرة مسائية، وحين تقرأ كتبه الصغيرة المنمنمة تظنك أمام مختص في الفلسفة أو الأدب، ولكنك تسأل.. فيبتسمون ويقولون: «شاكر؟ إنه أستاذ تاريخ».
مفكّر عذب ورقيق يقدّم لك أضخم المسائل الفكرية وأعصاها على الأفهام بلغة بسيطة حلوة ورشيقة حتى لكأنها الشعر الحلال.
إنه لا يكلمك، ولكنه يهمس في سمعك همسات صغيرة متواضعة سرعان ما تكتشف أن وراءها عقلاً جبّاراً وثقافة أدبية وتاريخية متألّقة.
وتجدك حائراً متسائلاً: «هل هذا الذي أسمع وأقرأ هو أديب أم مؤرّخ؟» بل إن شاكر مصطفى نفسه هو الذي يتساءل مثلك في بعض ما كتب: «هل كان عملي طوال حياتي في التاريخ أم في الأدب»؟ ولكنه سرعان ما يجيب ويقول: «التاريخ هو مهنتي، والأدب هو هواية عمري».
ومن هنا جاءت كتبه في التاريخ قطعاً أدبية لا أجمل ولا أعذب. فإذا بالشخصيات التاريخية التي يحدّثك عنها تتحوّل بقلمه البارع الى شخوص روايات وملاحم يتحركون أمامك وكأنهم يتحرّكون على مسرح. بل إنه أعاد كتابة أجزاء من التاريخ برؤية غير التي نعرف وبذلك تغيّر فهمنا لأحداث ووقائع كثيرة كانت عندنا من قبل من المسلّمات، فقد كتبت مثلاً عن المظلومين في التاريخ ليرفع عنهم الافتراء المجحف الذي يجعلهم في أعيننا إما مجانين أو بخلاء أو حمقى أو سفّاحين. ولكن حين اعتمد شاكر النصّ الموثّق غيّر صورة هؤلاء وأصبحوا، بفضل قلمه المدقق والموضوعي، أهل علم وكرم وعدل وتقوى، فمنهم كان: الحجاج، وكافور، قراقوش، والحاكم بأمر الله.. وغيرهم كثيرون كثيرون.
وتعتبر مقالته التي كانت بعنوان «هل هناك حقاً أدب مهجري؟» من أهم ما كتب في هذا السياق، فقد نسف أكذوبة هذه التسمية من جذورها بعد أن عاش في البرازيل خمس سنوات وشاهد بأم العين طبيعتها الموحشة، وغاباتها المظلمة، وأدغالها المرعبة التي تسكنها الوحوش الضواري والأفاعي الضخمة وأسماك الأمازون المفترسة! ففي هذه الطبيعة البدائية عانى المهجريون العرب الأوائل، وضاع أكثرهم في براريها اللانهائية، وأكلت صخورها المدببة من أجسادهم وهم يلهثون وراء الرغيف ولا رغيف، تفترسهم الملاريا ويفتك بهم النمل الوحشي القاتل وتغتالهم سهام هنود الغابات.
وسمع شاكر ممن بقي منهم ملاحم عذاباتهم وما عانوا في ذلك المصهر الاستوائي، فتذكّر أنه لم يجد أثراً لكل ما رأى وسمع فيما سمّي بالأدب المهجري، وكأن الأديب المهجري كتب ما كتب وكأنه لايزال جالساً في قريته الوادعة في الوطن الأم أو يتنعّم بنسائم البردوني في زحلة! .......
وهكذا فإنك عندما تقرأ التاريخ على يد شاكر مصطفى ستجدك دائماً في حضرة الأديب المتألّق.
صباح قباني
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد