صليات «الكارلو» تختصر طريق البحث عن «الهوية»

15-07-2017

صليات «الكارلو» تختصر طريق البحث عن «الهوية»

«أنت القاتل يا شيخ»(سلمان ناطور)اختار الشهداء جبارين موقعاً ذا دلالات عاطفية تحفر في العقل والوجدان العربي والإسلامي (أ ف ب)
سيغطّ الظاهر بيبرس في نوم عميق حتى يلاحقه أربعة أسود على هيئة كابوس مزعج، فيستيقظ مرتعباً، ثم يأمر بتخليد كابوسه هذا فوق «باب الأسباط». ربما لا يتعدى حلم السلطان المملوكي هذا حدود الأسطورة المتناقلة عبر ألسن الأجيال. لكن الداخلين والخارجين من المصلين و«السائحين»، لا بد أن تستوقفهم رؤوس الأسود المعلقة فوق ذلك الباب، قبل أن يستوقفهم جنود الاحتلال للتفتيش والسؤال عن «الهوية».
من خلال هذا الباب التاريخي الكبير، شوهدت باحات الحرم القدسي، أمس، وهي تتبدل من ساحات للصلاة إلى ساحات للاشتباك. فالمدينة المعروفة بكونها «مُحزنة ومرهقة» كانت تتحضر لاستقبال مئات الآلاف من المصلين الوافدين من بعض فلسطين، لأداء صلاة الجمعة: بائعو الكعك، والزعتر، والنعناع، شقّوا الطريق بخفة عرباتهم، متنقلين بأجسادٍ هزيلة بين الأزقة القديمة.كان «روتين الجمعة» سيستمر على حاله لولا أن ثلاثة فلسطينيين ممن يرابطون في المسجد الأقصى، قرروا عند السابعة والربع صباحاً أن سلاح «الكارلو» محلي الصنع، أجدر أن يؤم بالناس للمقاومة. ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم في فلسطين المحتلة عام 1948، وجميعهم من عائلة جبارين، وثلاثتهم اسمهم محمد، اشتبكوا مع حرس الحدود الإسرائيلي عند «باب الأسباط». فقتلوا اثنين منهم وأصابوا آخرين بجروح متفاوتة، ثم هرعوا إلى باحات المسجد الأقصى حيث طاردهم جنود الاحتلال وشرطته، واشتبكوا معهم حتى استشهدوا في صحن قبة الصخرة.
ساعات قليلة عقب العملية، رفعت الرقابة العسكرية الإسرائيلية أمر حظر النشر عن أسماء الجنود القتلى، ليتبين أنهما هايل سيتاوي، من قرية المغار، وكميل شنان، من قرية حرفيش. وهما جنديان درزيان من الذين يفرض عليهم كيان العدو الخدمة العسكرية الإلزامية.بمعزل عن التداعيات الأمنية والسياسية للعملية، يبدو أن الأيام المقبلة ستشهد مساعي حثيثة من سلطات الاحتلال وأذرعها لحرف النقاش، وتوجيهه، من نقاش يبحث ويفكك الأسباب التي دفعت بثلاثة شبان في مقتبل العمر إلى تنفيذ عملية هي الأولى من نوعها (لجهة الاشتباك المسلح داخل الحرم القدسي)، إلى نقاش خبيث وعقيم عن الهوية والطائفية.إذاً، ثلاثة شهداء. اثنان منهم كما تحكي صورهم يطمحان إلى اكتساح بطولات الملاكمة على الصعيدين المحلي والعالمي. هؤلاء قرروا أن يرحلوا عن بلدهم وأهلهم وأحبتهم وجيرانهم، من الذين لا بد أن فيهم أسيراً، أو جريحأً، أو شهيداً، أو صاحب بيت مهدم بحجة أنه «غير مرخص». فيهم على الأقل من طاولته عنصرية من يعتبرهم ضيوفاً في وطنه. هؤلاء وجدوا قبل رحيلهم متسعاً من الوقت ليلتقطوا صورة تذكارية، ثم يذيلونها بعبارة «ابتسامة الغد أجمل إن شاء الله»، وهو إن دل، فيدل على عزم قرارهم.برغم أنه كان بإمكانهم الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين في أي مكان آخر من فلسطين المحتلة، فإنهم اختاروا موقعاً ذا دلالات عاطفية تحفر في العقل والوجدان العربي والإسلامي، موقعاً متأصلاً في الهوية الجمعية، ويرتبط مباشرة بالتاريخ واللغة والإرث الثقافي والحضاري لهذه الأمة، بمركباتها المختلفة. اختاروا ذلك رغم مشقة العبور إلى باحات الحرم، حيث يمنع دخول أي شخص قبل تفتيشه، تفتيشاً أمنياً.لكنهم حتماً لم يتعمدوا أن يفتحوا بشهادتهم باب السجال الهوياتي. فبالفعل كان مشهداً سوريالياً: ثلاث بطاقات هوية إسرائيلية في باحات الحرم، تعود إلى الشهداء الفلسطينيين، وجثتان ممددتان لجنديين «إسرائيليين» تبين أنهما درزيان (لا فرق في هذه الحالة). النقاش بدأ منذ عقود، وليس أمس بمجرد أن استغل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، طائفة الجنديين القتيلين ليحرض في أكثر من اتجاه، شاكراً «الجنود الدروز على خدماتهم وتضحياتهم في سبيل أمن واستقرار دولة إسرائيل في مواجهة الإرهاب».النقاش لم يبدأ بسقوط هذين الجنديين اللذين كان يمكن أن يسقطا في أي جبهة أو عدوان قد تشنه إسرائيل. وإنما بدأ منذ أن قرر شيخ عقل الطائفة الدرزية أن يسلخ عبر سلطته «الأبوية البطركية» طائفة كاملة عن شعبها، ويرسل شبابه لخدمة مشروع احتلالي، فيقتلون على يد أبناء جلدتهم.بدأ ذلك في تموز 1954، عندما قرر وزير الأمن الإسرائيلي فرض التجنيد الإلزامي، بموجب القانون، على الشبان العرب، ليعدل القانون بعد عامين، كي يقتصر على الشبان الدروز وحدهم، بموجب اتفاق مع «قيادة الطائفة الدرزية» التي قدمت الطلب لسن القانون بذريعة أن التجنيد «مدخل إلى الحصول على مكاسب وظيفية لأبناء طائفتهم»، فضلاً عن إعلان «الولاء لدولة إسرائيل».لكن هناك من رفض القانون حتى بين الدروز أنفسهم، على اعتبار أنه استثناء وعزلة لهم عن بقية أبناء شعبهم. وقد نشأت لاحقاً قوى وطنية منظمة تعارض التجنيد. وكان من بين أبرز المعترضين على التجنيد الشيخ فرهود فرهود الذي أسس لاحقاً في آذار 1972 «لجنة المبادرة الدرزية».دفع الدروز مئات القتلى كجنود في صفوف جيش يحتل أرضهم، ويقتل أبناء جلدتهم. ومع ذلك، فإن أراضيهم لا تزال عرضة للمصادرة مثل أراضي بقية أبناء شعبهم، ولم تتبدد النظرة العنصرية الإسرائيلية تجاههم. ولا يزال ولاؤهم لإسرائيل مشكوكاً فيه، فهم لا يخدمون أساساً في وحدات عسكرية حساسة أمنياً، بل حيث يكونون هم عرضة للموت أسرع (حراس حدود، سجانون، وحدات مشاة عادية).هم ثلاثة شهداء وقتيلان، ينتمون إلى الثقافة، والتاريخ، واللغة، والوطن الواحد المشترك. لكن خياراتهم اختلفت باختلاف وعيهم وإدراكهم.

الأخبار: بيروت حمود

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...