صناع الدراما لم يتزودو معرفياً ومازلنا أمام ثقافة ضحلة ومخزون واقعي

19-01-2015

صناع الدراما لم يتزودو معرفياً ومازلنا أمام ثقافة ضحلة ومخزون واقعي

 كل الغبار المثار نتاج تقلبات المناخات الدرامية سأدعها وراء ستائر النسيان لإظهار الغاية الشماء من المقال وسأرسم عرشا من ربيع وأصياف لعبور دراما ناهضة فيحاء قادمة لا محال من بين الأزهار وشقائق النعمان وصولا إلى أيائك علياء ورقاء دون ارتباك والتباس ولا استعراضات رخيصة أو شائنات مخيفة تهبط إلى قاع المقولات إجحافا بالفكر السوري والأداء الفني والنتاج الدرامي البهي...
 
الدراما السورية ومقارنات علمية:
من يستهن بالدراما السورية فهو إما جاهل أو غير متوازن أو حاقد وماكر.. إنها مثل أي معرض ثقافي اجتماعي تاريخي وجداني كامل بلا مزاودة ولا نقصان.. إنها تشبه من قريب أو بعيد من حيث الغاية والتأثير موسوعة، ما، كتبها مؤلف من أولئك القدامى الكبار الذين وضعوا أمامنا صورة المجتمع البشري بكافة تفرعاته وتعدداته وأوصافه وطبائعه ونتاجاته....
أجل... أنا أرى مثلا أن مقدمة ابن خلدون «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» لهي أشبه من حيث الأطر العامة وليس من حيث المنهجية والدقة العلمية والأمانة الفكرية وجدية الطرح واجتهاد البحث، نعم إنها في معطياتها العامة أشبه بتراجيديا درامية حيث قرأنا بصريا فيها بين طيات الورق الحنون ذي الرائحة العابقة بعطر البحث والانتقال دون كاميرات رصدية من مكان لآخر، قرأنا الكثير عن مواصفات الشعوب حتى ألوانهم وسماتهم ومرحهم وطبائعهم وعلومهم.. أتصور نفسي اليوم وأنا أقرا نفائسها أن عيني المجردة ستقوم بعملية مونتاج تلقائية لتحويل النص كله إلى صور غنية بما كان المؤرخ التاريخي والاجتماعي الكبير يريد نقله لنا كتابيا...
قد يرى البعض التشبيه مبالغا به.. ربما.. لكن الحالة يمكن تمثلها لو قرأنا أحداث معركة حربية أو قصيدة شعرية تجمع الحب والهجران وتزاوج بين الأطلال وبطولة الفرسان..
لعمري أن كاتباً واحداً.. شاعراً واحداً.. مفكراً واحداً كتب بحثاً، ما، في مجلد تاريخي أو مؤلف اجتماعي أو قصيدة وطنية ربما استطاع أن يصور أدق المفاصل كما توفق في الإخراج أيما إخراج وكـأننا معه حيال دراما بارعة الإنتاج..
لو عرجت أيها القارئ العزيز على قصائد نزار الشاعر السوري الأمير لتلمست دمشق الحسناء كما تراها الآن ولعرفت الأندلس البهية تماما وتصورتها جيداً من مشاهد أشعاره وكاميرات بلاغته.
وهكذا.. والمنطلق والغاية من ذلك التقريب وإن كان المقارن به عظيم الاجتهاد ونبيلاً.. كبير الغاية منذ تلك الأزمان قد يرفع عماد الفكر حتى حدود السماء ومع ذلك أقول إن الدراما السورية بالتالي هي مخزون الأمة.. هي بحثها الكبير للقادم من الأجيال.. هي فلسفة وشعر وتحليل وعلم اجتماع وتاريخ وإلا فكيف استطعنا امتصاص الكثير من المعلومات من خلال الأفلام السينمائية والمسلسلات التاريخية وهي تقرأ علينا بلسان الكاميرات أحداث الدعوة الإسلامية بفيلم الرسالة أو تاريخ الاحتلال الإفرنجي لشرقنا من خلال عمل صلاح الدين وكيف استنبطنا بعض التصورات عن هارون الرشيد وعصره الذهبي من أحداث مسلسله الشهير وتعرفنا منه على جوانب من الحياة الاجتماعية والعاطفية والحربية إبان الحكم العباسي والأمثلة كثيرة...
 
ما بين الأمس واليوم انهيارات وبهتان وإقلاع:
اليوم كل ما ذكرته كان يوضع تقريباً في يدي بعض الجهال من صناع الدراما عن طريق كتاب صغار لم يفطموا معرفيا بعد ومازال منهم ضحل الثقافة والمخزون الفكري الواقعي، لهم نسجهم الواهية من حيث المنظور العام اكتسبوها من الجلوس في مقاهي الأرصفة بين دخان النراجيل مع كؤوس الشاي السوداء بما يسهل دخول واحدهم في خيال الحلم بأن يصبح شهيرا وثريا.. هو لم يسافر يوماً متنقلا كما علماء وأدباء الأمس بين مكتبات دمشق ولا بين مقتنيات القاهرة ومخطوطات المغرب العربي.. لا.. هو بالتالي لم ينل الثانوية ربما وليس مبدعا، هو أراد الشهرة والتماهي مع إعلام مرئي ينقل واحدنا من السرير إلى الشاشة والعكس صحيح يأتي بسخافات الدنيا إلى غرف معيشتنا.. إلى ذهنيات أطفالنا وإلى رؤوسنا التي أصبحت فارغة وقد تسمرت الساعات الطوال تتلقى الثقافات المرئية بغض النظر عن أهدافها والمسميات ونسي الكثير أن الدراما وأغاني الفيديو كليب قاتلة أجيال وأجيال إن لم تكن ايجابية البناء وأن العقول غير النابضة بالتنقل بين مرابع العلم والنور مثقلة بالانتكاسات فوعيها مغيب وغائب وتطلعاتها مشلولة راحلة إلى تقليد وإعجاب بجمال تلك الممثلة وفتنة قامتها الهيفاء وشعرها الأشقر الشلال والكثير الكثير مما يبهر الأبصار..
الحقيقة أن درامانا السورية شهدت انتهاضاً وانتكاسات حملت أحياناً روايات كبار الأدباء ووضعتها في عهدة المهرة من عمالقة المخرجين والمبهرين من الممثلين.. فكان النجاح هو العنوان، أما في الفترة الأخيرة فقد انزلقت أحياناً إلى يدي أطفال من الكتاب والمخرجين والفنين والممثلين ليس تجنيا على أحد ولكن ذاك بعض ما كان.. أحدهم يقول لي هل مسلسل أيام الدراسة مثلا بجزئيه يصلح لتلاميذ المرحلة الثانوية والجامعية أم يمكن مع شديد الحرج عرضه على الأطفال وهنا يختلج القلم بين أصابعي رافضا أن يكون الصغار من جمهور تلك الأعمال فإن أرسلنا هذا المسلسل للمرحلة الثانوية العليا أو الجامعية ألا نبخس عقول شبابنا ونحجم فكرهم ونجعلهم سفهاء دون مرح مقبول ولا دعابة لطيفة أو مقولة ثرية...
أما إن رحنا إلى دراما الاستباحات ودخلنا في قصص الدعارة وانتهاك الأخلاقيات المجتمعية أفلا نشجع الشباب الصغار على الالتفات إلى تلك الحكايات والإمعان في تقليدها لنجردهم من كل الجيد والهادف من السلوكيات والابتعاد عن قضايانا المصيرية؟
في العام الفائت أعلنت شاشاتنا عن أعمال كثيرة فابتهجت القلوب وقلنا إن صناعة الفن وأدبيات الدراما ما زالت بخير والدم يغشي العيون والرصاص يسكن الرؤوس والأشجار تئن والأرصفة تتصدع والأبنية تسقط قطعا على الأرض والكون جاثم على خرائط تمزيق سورية وتفتيت معالمها وتشويه تاريخها ومستمر في غيه وضلاله، ونحن المشردون في متاهات المكان، نحن فقط من نصابر الآلام كي لا ينهار الوجدان ومع ذلك هدرت الأموال السورية من أجل إنتاج المريض من الأعمال.. لا يوجد عمل بيئي ينعش تاريخنا ويحمل تراثنا إلى المرئيات لا.. لا عمل بيئي تحدث عن حقيقة المعطيات التي تعزز منعتنا وتلهب إراداتنا الشهباء أكثر من استعراض نساء ثرثرات وعنتريات شبابية تتصدى لأهل الحارات... فواعجباه من تلك الدراما التي وضعتنا في مستنقعات البهتان.. شوهت نجاحات الدراما السابقة وليس من رفض عملي لتلك الأعمال خاصة في هذه الأيام العجاف..
عمل درامي.. اثنان استطاع أحدهما أن يعلو إلى سقفنا الدرامي الشموخ لينقل لنا أوجاع الأزمة بطريقة معقولة واسأل هنا ويحق السؤال.. أين الدراما الجادة التاريخية المشرفة التي تماثل صمود شعبنا.. وأسأل أيضاً أين الكوميديا اللطيفة الهادفة التي تنعش أرواحنا ولا تستغبي عقولنا.
مخزوناتنا الوجدانيه مليئة بعظيم الروايات وثري الحكايات.. والأقلام النظيفة حاضرة في الساحات لكنها مغيبة ومبعدة لأن شركة ما قد يكون مؤسسها وصاحب المال فيها ليس من أصحاب الثقافات العالية وهذا ليس استخفافاً بأحد ويكفي أن بعضهم بكل إقدام وظف أمواله لدعم صناعة الدراما السورية ولكن العتب واللوم على أصحاب القرار في مؤسسات الإنتاج عموماً لأنها لم تنتهج خطة موافقات على النصوص الواعية والنظيفة ولم تجعل القراء من كبار الكتاب والعريقين من أهل الدراما.
.. شباب صغار نهواهم هرعوا كالفراشات إلى الساحات الفارغة ليفرشوها بالأخطاء والعثرات، ليس عمدا، قبل أن تتبلور مدارك بعضهم بشكل كامل إما لصغر سنهم أو لقلة مخزونهم الفكري والثقافي عموماً فأبهرتهم الشهرة وأغراهم المال...
وهكذا كان السقوط في الأفول.. في وجع المعطيات وغياب الغايات الوجدانية وتقبل أكبر الغزوات الثقافية لشعبنا ولتاريخنا بكل استسلام غير مشفوع على تبني تلك الدراميات..
في جعبتي المزيد من تفاصيل النكسة الدرامية بكل أسبابها وتسمياتها ونتائجها.. مع توقعاتي أن الرجوع إلى الزمن الدرامي الشفاف سيكون حتما أمام الأبصار...

 

عفاف يحيي الشب: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...