طلاء الأظافر: دراما تختزل حياة السوريين
استيقظت أمس, والمفترض أنه يوم ثلاثاء عادي, ككل يوم, تبتلعني فيه دوائر ما تأخر, وما يجب, وما سوف, وما هو كائن, وما سيكون, ومن أكون؟ وقد كنت في ذاك الصباح, ككل صباح, ببساطة.. نهلة, وعلى خطى الطريق إلى عملي, والمذياع غراب رغم أنفي رفيق, شيء فجأة في صدري انغرس, فتأوهت مرتعشة, وأمام عيوني ضاقت الخطوط العراض, وهوى البياض, واختفت الوجوه من أمام عيني في الغيوم, والعظام صارت ظمأ, والجسد سلة وجع, وأسمي على حين غرة في سلة المهملات ارتمى, أصبحت في ثوان.. رقما, مجرد رقم, ترى أبي في قبره سيغضب, أن ما اختاره بحرص الصائغ, في شهور, تحول في ثوان إلى رقم!؟ الدولار بستمئة وثمانون, هكذا يقول المذياع, والسيارة التي تحتوي جسدي المنكمش تبدو كالكفن, ووجوه عابري الطريق تبدو كإشارات المرور, تتنقل بين الأصفر والأحمر, وشفاههم كالفناجين مكسرة الحواف, تخدش الكلام, فينجرح الكلام, فأدير الرأس إلى شرطي المرور, ألوذ به, أحفر اسمي فوقه بالنظر, ثم أعض بنواجذي الحروف, أنا لست أهلوس, أنا لست رقماً, أنا النون, والهاء, واللام, ثم فجأة أسمع: 680, فأقول: نعم!؟
نعم, ولا أعرف لماذا اعتبرت نفسي المعنية بالرقم, كملف اعتراف بجرم لفق لي, لم أرتكبه, لكن لا أستطيع أن أنفيه, ولذلك أكتفي بتحسس أذناي, تراه اسمي, أم هو حقاً رقم؟ أم أن سحب الوجع تحجب الحقيقة عن السمع؟ لكن أليس هذا صوتي من رد عندما نطق الرقم, أم تراه صوت من عبروا أمام سيارتي الطريق, إذن أنا لست وحيدة, فرفقتي ملايين من السوريين العالقين مثلي في مخالب من يقطنون غرف القرار على اتساع البلد, نتصبب الحزن عرقاً, ونواجه الخوف دون ورقة توت, تدمينا الكلمات, تجلدنا الصور, ودماؤنا قطرة في العيون ليست تجف, وكلنا في شريط الأخبار العنكبوت مجرد أرقام, تُحددُ أسعارنا وفقاً للدولار!؟.
680, وأنا كالمبحر فوق موجة كاسرة, يعرف أن النهاية خاسرة.. خاسرة, وأن البحر سيلفظ أشلاءه في صباح أليم, عناوين في الصحف الفاجرة, وصوراً من وجوم على جدران البيوت, تهيم وسط آلاف الوجوه الراحلة, إذ ماعادت الأمهات يحصين الأسماء, لأن كل النساء في بلادي, أمهات راحلين, وعزائي أن أمي قد رحلت, قبل أن تقف في طابور أمهات الراحلين!.
680, وأنا كالمتنزهِ على خط استواء الموت, يرفع صوته ليطغى على ضجيج العجلات, ويملأ حلقه بالنشيد الوطني, ليعزي الذات أن ما في البلاد من جوع ووجع, ربما ضريبة حرب, لملمنا فيها شقائق النعمان من عين الشمس, وبحثنا في قبور من كانوا يسألون, عن السؤال, هل مازال حياً, أو على أمل أن يكون!؟.
680, ومشاهد البؤس في الوطن تُدهن بطلاء الأظافر, وشوارع المدن حبال مشانق, وصحراء لاتروي عطشاً, نجول فيها واجمين, مطرقين, نحن الذين نجونا من الموت, فلاحقنا الانحناء, نتلاقى بظلالنا الفارغة في الطريق, نتصافح مع الصبح بالأقدام الهائمة, وفي المدى دمشق, حلب, حمص…الخ, بالخوف من الغد تحترق, وعلى اللسان الكلمات تختنق, وسواعدنا مقطوعة, لكن الراية بعد لم تقع.
680, والحياة عبث حيث لا جواب على سؤال, والعيش مرار المرار.. كالقمار, تارة ملك, والأخرى كتابة, والمتراهنون علينا كثر, يلقون في وجوهنا بالتكهنات, مثل درهم في الهواء, فنصرخ في الوجوه.. كتابة, فوطننا من اخترع الكتابة, فتنفرج شفاه المراهنين تهكماً, وتطالعنا وجوه التجار الفجار الملوك.. مبتسمة, الوجهين ملك, والنتيجة محسومة, وحياتنا, وشريط الأخبار وعاء هراء, من يملك العملة يرسم على الوجهين ما يريد, ونحن ووطننا بين بين, ببساطة.. بين ملكين, سوء الأداء وسراق الوطن, والملوك لصوص, لكن العزاء رغم كل الأرقام, أن الملوك إلى القبور, وأن لا غالب في النهاية, إلا لمن يجعل الرقم رصيداً للحياة, وليس إتاوة عرش!.
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد