طموح الرواية الجديد في سوريا
لمَ تلجأ الرواية إلى سند واقعي (جريء)؟ بدلا من التحولات، منشغلة بمرأى الجثث، تقدم نتائجها كما لو كانت أخباراً. مع تحول المواضيع صوب فردية مشوشة وحميمية ساخنة، تخفق اللغة في تحرر أسلوبي، وتحول قطعي. المواضيع جديدة، لكن سردها لا يجلي قلب ندائها. نقرأ أخباراً ولا نفاجأ بأدب من طراز الحدث. ما قُمِع لعقود يظهر فجأة على يد المقموع كما لو أنه بلا حياة. هذه اللاحياة اللامتكلمة تتحول إلى طبيعة روائية معدية. هل تلبي الكتابة رغبة بأن تنسخ ما يلجم الواقع، غافلة تعليق موريس بلانشو: «لا نكتب بحسب ما نكونه، بل نكون بحسب ما نكتبه». ألا تتلقى الرواية كل المعاني دون أن تميز بينها كي لا تهدم انفتاحها الأقصى. ألم نفكر أن الجرأة الممدوحة منفرة. ثم ما معيار الجرأة؟ أهو خرق الممنوع فقط؟ إن جعل ما هو حقيقي وفعلي معياراً لأدب جديد لهو شكل آخر من العجز عن التخيل. إنه أيضاً اعتراف بأن (الحقيقة – القمع – التابو) تغذي الكسل وتطيل عمره وأن ليَّ الكلمات صوب الخيال أصعب من طمرها بين الحقائق. إن الكسل يجعل من الحقيقة جثة لغوية. دور نشر تلد الروايات «مثل أم تلد الأطفال بلا نظام». ثمة حماسةٌ موَّاءةٌ إلى تسطيح الرواية بتلبية استهلاكها كما من قبل وإلى الآن سطَّح العسكرُ الفقراءُ السياسةَ في عضلات الخطابة. تعجز الرواية (العاطفية السياسية)، باتفاق حصري لما هو شائع و(تثقيفي)، عن اللحاق بالحاضر. ثمة مزاج تأليف يفرخ التأزم بضياء متكلف. ستطغى علينا البساطة الكلية لأحكام وتوصيفات أقرب إلى رفض فاتر وتشك لائم. أورام الزيادة المعلوماتية مقلقة ولا سيما أنها متأتية من تواصل جُحْري ومعرفة فأرية. يُبنى الكلام الروائي على ضدية ناقمة وليس على تساؤل جوّال. تنجح هذه الرواية في أمر واحد فقط: انتزاع الحكم منا قبل القراءة ذلك أنها بالغت في الإخبار عنه أثناء الكتابة. تكتب مثلما تقرأ الصحف. نخص بالذكر هنا شجاعات ومروقات الرواية الناشئة في سوريا العزيزة والسعودية الحصينة رغم شساعة الفرق. سرعان ما تلجأ الرواية إلى التعليق على الحاضر وتعريته خاماً صرفاً. كأن في التعليق والعرض تفكيكاً وحلاً. التعليق سهل والجرأة هي اللب وموضوع الرواية سيفها الفصل. ستحبس الرواية في الجنس والسياسة كما حبس المنفلوطي الأدب في الحزن والعبرات وأرضعه جبران من ثدي عفة ملائكية وراهقه حنا مينا بصراع بطولي. اللغة أسلوب، فكيف نقيم أسلوباً على معيار تفضيل الحقيقة أو الواقع. جرأة تتجاوز الطرق إلى الغايات والأفكار إلى الوقائع، ولا تختلف عما تجاوزته الدول وأجازته لنفسها بابتكار قسري لشعوب تنهل من الصحراء الفكرية عدمها الضحل ومن المدينة البشعة عهرَها الأمي. تتحول الرواية - كتزيين بلا عماد - إلى إضافة مشحونة. إنها إضافة شغوفة بنفسها وليست خلقاً شرساً ضد حاضرها. كأنها تنبثق من مكان أجنبي أو تصدر من لسان بلا وجه. لا خيال لواقعٍ غدا بلا قدرة تخييل. رواية في العموم، يجذبها النفور والتهجم فتخضع أدواتها الفقيرة وتؤيدها بالجرأة. يتحول الروائي/ة إلى معلق مؤيد بالوقائع، وبعد حين إلى سائح ربما. مضى زمن العمل الدؤوب والشكوك الخطيرة، ومعه تتضاءل فرص العثور على أطياف وغرباء.
البساطة
ثمة ما يجعل اليسر والبساطة والتخفف البلاغي عنواناً جامعاً. إنه الواقع النيء، أدب الشارع والمقهى والغرف الساخنة التي لا تظهر الأشياء صرفة بلا شوائب كما تبدو في الرواية. إنه موارب ومتخف ومراوغ ومتحارب حيث تشتبك السير وتختلط الأشباه لتمتزج في وحدة انصهار ضخمة غائمة. الاستعارات والمجازات عتيقة ثقيلة، ونحن أبناء الحاضر خفاف النفس والفكر. التخفف البلاغي إجراء لفظي يضحي بما نحسبه بالياً إزاء معاصرةٍ هفهافة لم تعد تجد مكانها في تجديد اللغة قدر ما تصيدته في خسف اللغة لصالح الخفة والتسلية. لا يقال ان التخفف هذا ضربٌ من الهروب عن ثقل الواقع الذي لا تستطيع السيولة اللغوية الخفيفة أن تحتويه. نفهم من الهروب أيضاً تقديم صورة جديدة مدعاة من خلال الهروب من صورة ماثلة خانقة. ليس من السهل تبرير رواج الرواية بتخلصها من إعاقة اللغة فقط. تمييع وتتفيه التفكر باللغة كملاذ لإقامة الفكر في الجسد على كل حال، ومعها وضدها بآن، يرافق لجْمَ إرثها القريب عن البناء عليه، جزءٌ حادٌّ من حاجة خفية إلى نسيان سريع وكبت لاحق. لا الحاضر فقط ينبغي سرعة دفنه، بل أشباح كتاب الماضي كذلك. الجامعة غائبة والصرامة مثار تنكيت. في غياب النقابة والصحافة والدرس النقدي ناهيك بتضاؤل إن لم نقل موات قدرة المجتمع الأهلي على إفراز مخاضه العسير وتجاوزه، تسعى الرواية مشبوبة بلوعة حنينها إلى ملء الفراغ الصقيعي - على حال أنها هي الناطقة باسم الفراغ - بتحميل الخرف السياسي والعته التعريفي والتكلس المؤسساتي والقحط الثقافي والرياء المجتمعي والتبادل المُعَوْلماتيّ إلى صفحات ما كانت من قبل مكان مؤسسة ولا تثقيف ولا تعريف. إنه تحول غير مسبوق. وما يشدنا ويقلقنا من هكذا تحول قدرته على التملص الماكر والحياد البارد. ثمة تداخل أجناس شيق وعبيط. تداخل أجناس ووظائف يقدم من جهل بالأجناس ذاتها. لكن البناء على الجهل المدعي ألفة وقرباً وحماسة شبه كونية كالبناء على البحر سرعان ما يغرق في اللجة. سيقال إنه الواقع والواقع مريض وفقير. دوستويفسكي أيضاًَ كان أيضاً ابن واقع مريض ومتهالك كأمراض أبطاله يؤلم ويـتألمون بسبب أفكارهم لا أجسادهم فقط. أجساد روائيينا وروائياتنا – ممثلي أبطالهم وبطلاتهم والناطقين بأسمائهم – ليست أوعية فكر. تقديم الرواية شبهات نماذج وعينات حقيقية أو تمثل الحقيقة دليلٌ على سقم فلسفي وربما يسبب عقماً فعالاً في اجتراح تحاليل نموذجية لما هو حقيقي. لا أحد يتساءل عن أهمية الحقيقي إزاء الفني، وما إذا كان العطش الميت يروى بالحديث عن الماء الميت. لم نجد أحداً على قول نيتشه «يسعى إلى تفادي الموت نزفاً بفعل ما عرفه من حقيقة». تكاد الرواية تتحول إلى سجل تعسفي يطوف بالمعلومات والأخبار والتعليقات. لا تحمل المعلومات قيمة فنية خاصة بذاتها. إنها قابلة للنقل السلعي لكنها غير قادرة على تثبيت التأمل على ما تحول سلعة بذاتها. بادعائها الواقع تحجب ما يمكن أن يكون قيمة خيالية فيه. يحتاج الواقع السري، خاصة في بلدين معتمين مغلقين مثل سوريا والسعودية، إلى شيء من التجريد القاسي أو النزعة الخيالية، بدلا من تلخيصه وتقزيمه في ثوب وثيقة اجتماعية أو رسالة سياسية. تتكاتف البساطة واليسر مع الحديث عن الجنس كعرض حال لكبت مديد. نشر خلجات اللحم المهان أسهل من السير بين أشواك العقل الكئيب. يكفي القليل من الفضح والتعرية حتى نصفق للجرأة والسبق. السطح المكبوت والمغلي والملغى والمسكوت عنه يخلب الأسماع بسبب الحرمان والجرأة في آن. إنه يعرض بلا حماية ولا تخوم فيعوم ويتضخم مثلما يتم تعويم العملة في أزمنة الأزمات. تنشئ الأسرارُ المفضوضة قرابات تافهة مع الحقيقة. ومن قادر على التشكيك بها؟! إن الجرأة الممدوحة بالتركيز على ما هو واقع وفعلي سيجعل من هذه المجازفات الغشيمة ضرباً من توسل الأدب التحصنَ بالواقعي والاعترافي كما تتحصن التلفزيونات بالخبراء والتجارة بالدعاية الطاغية، حيث يتم جرُّ التأمل إلى حرق فيزيائي والمراقبة إلى وشاية رخيصة أين منها مجلات الشبكة وسيدتي والموعد. سينتهي الأدب الروائي على هكذا عمل إلى حيازة قدرة رديئة بكونه الأرشيف والشاهد للمستقبل الذي سيرفع الغشاوة الحمقاء بغشاوة أثقل. إن السذاجة المفرطة في تقديم الواقع على أنه حقيقة قصوى مفارقة هي الوجه المسخ من الضعف الذي يجازي الحقيقة ذاتها بالتصنع والمطابقة في آن. إنها لسمة جديدة همُّها الجرأة بما لها من شغف تعسفي. الرواية، بتوحيد موضوعها حول غاية واضحة وسابقة، تفقد أكثر ما تفقد بقاءها على صلة بالفن كعمل لا يثق بالوضوح ولا الغايات. وبالتركيز الحماسي والخامل على ما هو واضح وطري، تنحدر اللغة صوب أحادية أفقية؛ ذلك أنها مهمومة بالنقل السريع وبالحكم البات حيث يتسنى للواجب العملي الثقافي حينها، مغروراً ومغتبطاً، أن يبصق في وجه السخرية وفي وجه البطء واللطف والحذر والشك. السخرية وحدها التي يمكن من خفتها اللوامة والشكاكة الحصول على شيء من الدفء وحرارة الضحك. وهذه اللغة الأحادية – التي لا تعرف كيف تضحك من نفسها – تعين فضاء الرواية على تلبية وتكريس التصور الشعبي حول الوضوح القَمْليّ للواقع. كأن فقدان مذاق نوعي تتم تلبيته بكم هائل من تعويضات مهترئة. تعويضاتٌ رُقَعٌ من مدار سلع كمية على وصف يليق بالسموم. الأسى لا يُرَى قدر ما يُحتَقَر حتى يؤوب ذليلاً إلى النعيم الإجباري.
جرعات الواقع
إنه نوع من وصم اللغة بالحقيقة الجاهزة وتعرية الفن بجرأة الموضوع. كلما ازداد ضخُّ الرواية بجرعات الواقع المرّ كلما استخف أسلوبها وتبخر. إنها - الرواية على هكذا حال - جزاء سخونة الغضب والنفور البغيض اللذين يثوران على الضعف بمزيد من الضعف، ويرفعان العجز الانحلالي إلى طموحٍ هشّ ليس سوى تفخيم للعجز. أدب الحقيقة الجديد هذا يمضي بالواقع واعتماداً عليه من السخف إلى الصدق ومن الصدق إلى السخف في إياب وذهاب بلا أثر. إنها الثقة بالعاطفة الهوجاء التي تحول النَّهَمَ الصِّفْرَ إلى جرأةً خاوية وتجعل من الجرأة سلطان الكتابة. ثم أتكون حتمية التخفف من إرث اللغة المعيق هي الحقيقة المسلطة في لغة روائية ضد الاستعارة وضد المجاز؟ ألم يتسن لأحد أن يعود إلى الوراء قليلاً ليرى الاستعارات والكنايات كيف تصنع أفكار البشر وحقائق المجتمعات. روايات تشبه الأحداث ولا تعض على جرح تحولاتها. إنها جزاء الثمن البخس للجحيم الذي لم نر سواه. ذلك أنها تنبع من صورة بلا مادة وخط بلا سمك وتقييم بلا عاطفة كما لو أنها تتخيل الحياة عبر فم لم يذق شيئاً من مرارة ورعب العين. ومع ذلك هي رواية لا تنكر نسبها واحتفالها بالواقع، فهي بنته الشهمة والمتمردة والعطوفة عثرتْ على الوضوح ووجدته من مسار الطبيعة المرافق آلامَ البشر. لكثرة وضوح الواقع لا تحتاج اللغة إلى أسلوب قلب وتفسير جديدين. إنها باتكالها الطفيلي على الواقع تزدريه وتتبرأ منه كما لو أنه مرضها الذي ينبغي التستر عليه وتركه في علامات وضوحه المحتضر. رغم كل الحاضر فإن الرواية الجديدة التي تدعي حمل نبضه تفتقر إلى أي قوة جمالية تنشله من قاع الحرفية البائس إلى ذروة نوع مشعة. نتساءل عن تبعة تسيد ورواج هكذا نوع من الكتابة؟ سنزداد عزلة حدَّ أن العزلة نفسها لا تقدم لنا سوى مزيد من الشك بصواب بقائنا على رأي لا غير: أليس في رفض البلاغة والفصاحة تهرب - له ما يبرره بمرور الزمن وجدة الأحداث - من نسل اللغة، وشكل من أشكال السطو على الكتابة في غيابهما. ألا يوحي شتم الليل البعيد بقفزة ضريرة نحو نهار مزر؟ لا أزعم دعوة للفصل بين الرواية وإنسانية الحاضر المكتومة، لكن الإنساني الثقافي ليس الجامع الوحيد، وإن حصل فيأتي رخواً متكاسلاً، حشراً لمفاهيم معلقة، وهذا الثقافي الإنساني في حرية تعبيره يصطنع انسجاماً وصفياً بريئاً، لعمل بلا رحمة، يخفي مطابقة وهمية لأرض وهمية. لا رواية دون عزلة قاسية ويقظة، على شبه بحال كافكا: «إنني لا أبتعد عن الناس كي أحيا في سلام، بل أبتعد عنهم كي أستطيع أن أموت في سلام».
علي جازو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد