عماد جنيدي: تائه وأكره الهداية
يتمنى أن يكون المعري العصري ولكن في اطار غير مجد..
يتعلم من الاطفال ويعدهم المعلمين في مدرسة الحياة..
لا يشعر إلا بوجود المبدع وغيره مجرد ارقام ..
إنه الاسم المحير والانسان المتحير , الشخص المشاكس, والصوت الهادئ والصاخب في آن معاً.. هجر التدريس والصحافة, وانكفأ عن الحياة .. منذ سنوات عديدة وأنا الح على محاورته صحفياً فيأبى.. ولا أدري كيف انتجنا هذا الحوار على غير موعد وعلى غير عادة.. انه الشاعر الطائر المغامر الاستاذ عماد جنيدي.. ولعل حوارنا عن مكنونات جوانية لم نكن نعلمها عنه ..
> : عملت في الصحافة من الزمن فماذا لقيت ؟
>> أجمل ما في الصحيفة انك تراها في اليوم نفسه.
> كيف تنظر إليها؟
>> انظر إليها كما الى النساء بين التبرج وبين اليأس من الحياة.
> ماذا قدمت لها ؟
>> قدمت لها اوقاتا.
> ماذا قدمت لك؟
>> قدمت لي ما أنا عليه الآن..
> عينت اكثر من خمسة عشر مرة في الصحافة فلماذا انسحبت ؟
>> كان قراري منذ الطفولة ان انسحب من الحياة..
ولم امتلك الجرأة الكافية لقرار صعب كهذا فاكتفيت بالانسحاب من الصحافة..
> وبدأت مدرساً وهجرت؟
>> ليتني أعود إليها لأهجرها من جديد فالتدريس يفترض ان تكون معلما وان يكون الآخر متعلما وهذا الامر لا استحبه ولا ارضاه.. أنا اتعلم من الاطفال وأعدهم هم المعلمين في مدرسة الحياة..
وعلى سبيل المثال.. سمعت طفلا منذ ثلاثة أيام ينصحني بنصائح عديدة تتعلق بعقلي وصحتي وكتبي وحياتي اليومية و كانت كلها نصائح مفيدة غير ان الأخذ بها غير ممكن.
> والشعر كيف بدأ معك؟
>> لا أزال حينما اكتبه اشعر بشعور يافع يحاول تعلم السباحة فيصاب بالقشعريرة قبل ان يغطس في الماء ثم ما يلبث ان يسير في التيار, والحقيقة انني رغم اعجابي بالتيار لكنني أشعر بعجز كامل عند السير مع الشعر..
> هل قلت في الشعر ما لم تقله في الصحافة؟
>> قلت دائما في الشعر عكس ما أقوله في الصحافة.. وقلت دائماً لأمي عكس ما قلته للجارات والجيران وأقول دائماً لأصدقائي عكس ما أقوله لذاتي.. فالمجهول الوحيد حتى الآن في حياتي هي الذات وأنا في الشعر وفي نجواي الى الكون والله..
لا أفعل وفي كل لحظة من حياتي الاّ البحث عن ذاتي وقد تعرفت على الكثير منها عندما قرأت المعزوفة الازلية الرائعة للصديق مالك (برية الوجد الاول) ..وفي الحقيقة انها اكتشاف مذهل لحقائق النفس البشرية عبر وجدان تصوفي نقي عذب ومدهش.
> هل تعاود قراءة شعرك وتهندسه..؟
>> أكرهه كثيرا..واشعر انه خصم عنيد يجابهني اينما اتجهت.. أنا في الحقيقة احتاج الى لغة الشاعر الامريكي (روبرت فروست) الذي قال: ما أحوجني الى نصف لا يشبهني والى مدينة لا يعرفني فيها أحد.
> لكل شاعر غربته وغرابته.. فما هي وغربة غرابة الشاعر الجنيدي؟
>> اقرب ما أكون دائما في فرحي وفي حزني في صحوي وفي سكري وفي جنوني الى الذات الالهية ودائما أنا الأبعد.
> هل تقصد غربة ذاتية؟
>> إنها غربة المنفى الوجدي كما تأتت لمحي الدين بن عربي .
> هل انت متحد بشعرك أم بلهوك؟
>> أنا متحد بالماء فالماء بالنسبة لي هو حضن الأم وهو الكأس الذي يبعدني عن هذا العالم أناموجود في عالم أرغب في أن ابتعد عنه بقدر ما أخاف من ذلك !
> هل هذا الماء هو البحر؟
>> هذا الماء هو البحر وهو الينابيع وهو الطفولة وهو آخر الليل الكأس التي ترنحه.
>لازمت البحر حد الالتصاق .. فهل فهمته ..؟
>> البحر اسم نحن له المعنى ان استطعنا ذلك لكننا وللأسف نعبر هذه الحياة دون ان نسجل أي معنى ذي قيمة معتبرة..نحن ترابيون يصهرنا التراب و اشياء التراب.. نخاف كثيراً من الماء والبحار وأضواء النجوم.. وأنا أفسر ظمأ الشرقي للنوم من ان يلتحف عباءات ,النجوم فيلجأ الى لحاف صنعته امه في الطفولة.
>سبحت في البحر .. فلماذا هجرت سلاسله؟
>> لدي قصائد تكفي بالنسبة لي لتاريخ شعري شخصي..وعلينا ان نتذكر ان عدد صفحات ديوان رامبو لا يزيد عن 120 صفحة فاكبر عدو للشعر هو الكم .ولطالما انني أحاور الآن الصديق الشاعر مالك الرفاعي فإنني اقولها بمنتهى الصراحة انني وجدت في (بريته) التجديدية ما يؤسس لحداثة ما بعد ادونيس.
> وماذا عن عزوفك الابدي عن الريحانة؟
>> وكان الاولى لو سألتني عن التفاحة وهنا أرد عليك بمقطع شعري كتبته منذ اربعين عاما الى مراهقة كانت ساحرة واقتحمت علي خلوتي وأرادت ان يكون لها ما تريد فكافأتها بهذا المقطع؟
وكانت مروة واضاف في عيني تفاحة
ولكني أنا القروي لم أتعلم التفاح
أعدت لدي ساعة صرخة هوجاء
وكنت كصخرة صماء
لم تهتز للحب..
فحبي ان رسمت طريقي الوردي
بين الهدب والهرب
وحبي ان اسافر ما يشاء
الحب عبر فضائك الرحب
> هل تعود يوما ما الى التفاحة؟
>> .. نعود اليها وقت يعود (....)
> هل تمدرس الشعر؟
>> أرى ان كل شاعر حقيقي هو تفجر نجم جديد..
> أين ترى موقعك بين هذه النجوم؟
>> موقعي هو النجم اذا هوى..
> أي الذوات او الشخصيات استهوتك؟
>> ..ا ستهواني ابو العلاء المعري الى حد تمنيت ان أكون بمواصفاته حتى الجسدية.
> لماذا ؟
>> ..لأنني رأيتك انه وحده الذي رأى كما ورد في السطر الأول من ملحمة (جلجامش) جلجامش هو وحده الذي رأى وعرف كل شيء فارقصي فرحاً له يا نساء بلادي..
> تأثرت به؟ شعرياً أم فكرياً؟
>> أعترف انه شكل لي مفصلا ثقافيا منذ كنت طالبا في الثانوية وبالتأكيد ترك مؤثرات في الشعور واللاشعور لست الآن قادرا على التقاطها بشكل محدد..
ولكن اضيف ان البعد التأملي التشاؤمي العدمي الوجودي الذي دمر أْعماقي قد يكون منشؤه أبا العلاء اضافة الى بقية المؤثرات العديدة.
> كيف تقضي اوقاتك الآن؟
>> ابحث يوميا عن غرفة مطلقة خارج الوقت وحتى الآن لم أجدها.
الوقت بالنسبة لي مثل الجسد بالنسبة للصوفي.
الوقت سجن الروح.. والجسد ايضا سجن الروح..فيا أيتها الروح ارجعي الى قصيدتي قلقة متوترة اغنيك بالسؤال عن الجواب..
> ألا تخاف على شعرك ان يسرق ويباع كما سرق شعر نديم محمد؟
>> أتمنى لشعري ان يكون حمارا يسرقه فلاح معوز ويستفيد منه في تحقيق كفافه اليومي شرط ان يسمح لي بالتفرج عليه .
> لماذا لا تنشره انت وتتفرج على ذاتك الشاعرة في ابنائك الكتب؟
>> قضيت حياتي اتفرج على هذا الوجود بعد ان غادرت الطفولة والتفرج على صندوق الفرجة والفرق بينهما لا يكاد يذكر.
> هل هناك موعد لنشره عما قريب؟
>> حصلت معي حادثة منذ ثلاثين عاماً.. جاء محمد فرحات وعادل يازجي وعقدنا سكرة في الشعلان وكان الاتفاق ان نختمها بحوار تلفزيوني يجريانه معي وختمت الجلسة ان حطمت عليهما الكؤوس وجهاز التصوير التلفزيوني ولكنك محظوظ جدا في هذا الختام .
> أين انت من هذا الكون؟
>> ما أزال مشروع تساؤل غير مؤكد عن حقيقة وجود هذا الكون , فأنا اتطلع بمن حولي من البشر والشجر والكائنات جميعا ,الوحيد الذي اشعر انه موجود هو المبدع وغيره مجرد ارقام.
> ما جدوى وجود هذا المبدع دون مبدع آخر يصغي اليه ؟
>> هو التأكيد لم يبدع لولا انه وجد المبدع الآخر الذي يقرؤه. كذلك الامر نطلق اصواتنا في الوديان وتردد اصداءها الوديان مما يذكرنا بقول العم المتتنبي:
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
والحقيقة هو انني اعيش واعاني الآخر في كل اوقاتي وأشعر أنني له الصدى وليس العكس.
> لو عدت طفلا هل تقولب نشأتك وحياتك غير ما انت هو الآن؟
>> لو عدت طفلا لغيرت خط استواء القافلة وجعلت من نجد جنة عدن .. وجعلت من قلبي وطنا لكل انواع العصافير..
> هذه قمة انسانيتك؟
>> مطلوب منك ان تكون انساناً الى ابعد الحدود وشاعراً الى ابعد الحدود.
وارجو لأي متسلق لقمة (ايفرست ) ان يتذكر الشموخ الانساني الذي هو أعلى من الجغرافيا والتاريخ .
> من هو الانسان اذاَ؟
>> الانسان الاول والاخير هو أحد اثنين لا ثالث لهما.. هابيل او قابيل .. واعتقد جازماً ان في كل منا يوجد الاثنان.
> لماذا هذا التماهي بين شعراء هذا العصر ؟
>> الاسماء كلها تسبح في الماء .. واسماؤنا تسبح في ظلال الاسم والمعنى ولا أحد منا يعرف الى أي شط يتجه وهنا اتذكر قول ادونيس: (تائه وأكره الهداية) فالضلال سرعة الوجود الانساني لأنه المدخل الحقيقي للبحث عن (لكن) وما اشبه الانسان الذي يطلق المركبة الفضائية بالمركبة التي أطلقها .
مالك الرفاعي
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد