عن التاريخ والناس وإيديولوجيا الدراما

ليس من المناسب أن نبدأ الكلام التالي بالاستغراب. فليس غريبا أبدا مبلغ التسطيح الذي احتل عقول وذواكر البشر والأجيال الحالية في سورية، والحاصل بعدة طرق ومنافذ سُلكت من زمن لم يزل حاضرا في صناديق الذاكرة الرطبة، ابتداء من النظام والمنهاج المدرسي الرسمي، وليس انتهاء بثقافة الناس الشعبية عبر «الشفاهية الجديدة» المتمثلة بالميديا ووسائل الاتصال.

فبقايا ورواسب ما تقدمه المدرسة الرسمية ومنهاجها الرسمي الحزبي، وما يعلق منها في جدران الوعي الذي يراد له أن يكون ثورياً، خاصة في ما يتعلق بقصة هذا الوطن، أثبتت نجاح الدولة في حشر أنفها في التاريخ، الذي زيّنته في عقول أجيالها المؤدلجة، كيفما حلا لها التزيـّن والانتقاء. ولأن التاريخ هو مفسّر شخصيات الكيانات والأوطان نزولا الى المجتمعات التي تنشأ بين تضاريسها، كان في غياب أكثره الفعلي عن المعرفة العامة أن غابت معه شخصية البلاد الأصيلة في الأذهان، عندما اقتُصر على ما تقدمه الحكومات من «آرائها» فيه، فأصبح مع تعاقب الأجيال، التي باتت تتأدلج بـ»النشأة»، هو وحده التاريخ، ودونه تأليف ومحض تأويل.. تحول الرأي في النهاية الى حقيقة مطلقة ناجزة!

واليوم، لا يعرف أبناء جيلي الكثير الوافي عن ملامح شخصية الوطن الذي ولدوا فيه (ولهُ؟)، لم يتعرفوا لحظات تكوينه وترسّخه الحقيقية، مقدماتها، ظروفها، وأشخاصها. هذا ما يحدث من بدايات الطفل الطليعي المقبل على وعي مكانه، الى ساعة تخـرّج المواطن المعقّم والمحصن من أذى وشكوك البحث والتساؤل... المواطن العددي، النموذجي.

كان لا بد من قول ما سبق لنرسم الصورة الذهنية الحالية ونكمل الحديث عن السرطان الذي يكتسح العقل والوعي الجمعي لأجيال سورية الشابة والطالعة. ففي وقت لم يعد فيه للكتاب والمعرفة العامة «خُبزة» بين الناس، كما يقول المثل الشامي، احتلت المشاهدة النلفزيونية وما تقدمه من مواد ومعلومات، المرتبة الأولى في عملية التثقيف وترقيع الفجوات المعرفية العميقة للناس، وخاصة في ما يتعلق بمسألة التاريخ أخيرا. وها هي أجراس الخطر بدأت تُقرع. فأن يتشاجر أخ مع أخيه بخصوص مسلسل درامي سوري «حاراتي» يؤكد رنين هذا الخطر. الأول يعترض على استسهال الخوض في تاريخ دمشق ومن عاش فيها في ذاك الزمن، والثاني يـرد غاضبا بأن «هذا هو تاريخنا... تاريخ الشام»، مع العلم بأن لا الكتاب كان من رفاقه الدائمين ولا مؤرخي العرب كانوا من مراجعه المعتمدين!

وبعيدا من النقد الفني الممكن أن يواجه به هذا المسلسل وأشباهه، فقد كان لافتا أنه استحوذ على درجة عالية في وتيرة المشاهدة، داخل سورية وخارجها، مع الأسف. واللافت أيضا هذا الـخدر الذي أصاب متابعيه، الذين ظهروا وكأنهم منوّمون مغناطيسيا، مسلّمون بما يعرض عليهم دون أي جدل!

ففي الدرجة الأولى، مدّت الأيدي لتتلاعب وتنتقي أمورا هي من اختصاص التاريخ وأهله، ومادة التاريخ المتلفزة هنا من نوع «تاريخ المدن»... ولم يكن الغرض تحريضاً وحثّاً على التفكير فيه والعودة اليه، بقدر ما كان محاولة – ناجحة – لفرض صورة نمطية عنه، تكرس نظرة صانعيها، وتكفي الناس مجهود قراءة تاريخهم. لقد اقتُطع جزء من سيرة هذه المدينة اقتطاعا عشوائيا لا يأخذ بالاعتبار النسيج الحيوي والتاريخي الذي خلقها ومدّها بالحياة. وقد قـُدم ما اصطلح على تسميته دراميـّاً بالبيئة الشامية، بصورة هي مزيج بين الخيال والحنين، والتغني بذكورة غابت وأنوثـة تمردت. فدمشق ذاك الزمن أو الشام في المسلسل، ظهرت عبارة عن شامات عديدة تسكن كل منها في حارتها وحيّها، تتخندق وتتكور على نفسها بالنظر الى أشباهها وجيرانها على أنهم «آخر» غريب. ظهرت الأمكنة التي دارت فيها الأحداث الرئيسية وكأنها معزولة عن محيطها، لا تتفاعل معه وبه، فكانت أشبه بقرى وضياع القرن الثامن عشر، غلب عليها الهوى الريفي أكثر مما ظهر من اكسسوار مديني.

ودمشق التي عرضت علينا كانت نقيّة وصافية من التعدد القومي والمناطقي والطائفي الذي كانته حقيقةً أيام الانتداب الفرنسي، فترة أحداث المسلسل. دمشق التي رأيناها كانت فقيرة بمثقفيها وبطبقاتها الاجتماعية المختلفة من البكوات والأغوات والأفندية، فقيرة في احتكاكها اليومي بأهالي ضواحيها، وأكبرها يومها حي الميدان. هذه الدمشق لم تشتهر عندهم الا بدكان الحلاقة ومراتب «بعض» الزعامة التقليدية (الزعيم، والعكيد)، فلا داع إذاً الى احراج النفس الدراميّة والخوض في عائلات دمشق وأعلامها. وبالتالي لم يكن هناك من حاجة الى الخوض في صناعتها وتجارتها أيضا، فلا الــــــبروكار الشامي يهمّ اخوتنا العرب المتابعين للمسلسل ولا صناعة تجفيف الفواكه التي كان يتموّن بها حجيج المسلمين الذين كانوا يتــــــجمعون في دمشق للانطلاق في رحلة الحج الى مكة أيام السلطنة العثمانية. أما نساؤها، اللاتي ظهرن أشبه بالجواري محترفات المكائد والــــــمؤامرت، مفرّغات من العقل والتوق للحرية، فالحديث عنهن وانصافهن يحتاج لأكثر من هذه الفسحة. هذا ما وصلنا ووصل الى الجيل الصاعد البادي بالخـــــــروج من عزلته الفكرية.

وعلى عكس الفن الذي لا يدعي تقديم الحقيقة المطلقة، غيـّب عن هذه الدراما أي من العناصر الصادمة المحفّزة على الجدل والتفكير والنقاش، فلم يترك فيها مساحات صغيرة لينزل اليها الناس ويتباحثوا فيها. فاذا سلمنا بأن مارأيناه كان فنّا، فالأكيد أنه كان خالياً من التثقيف... وفي النهاية، بدا أن مزيجا من الحنين والجوع القصصي الخفي والعصبيّة الساذجة أحيانا، جعلت هذا الجيل وغيره يتلقف تلك الأعمال بنهم شابه التسليم بالأمر، أو الأصح بالصورة والمعلومة. وما كان ذلك ليتم بنفس الزخم والتحشيد لولا أفضال «أيديولوجيـّة الدراما» التي تسـيّـدت عقول الناس وروتينهم.

حسان عمر القالش

المصدر: الحياة