عن المقالات المستعرضة للكتب الأدبية
المقالات والعروض الصحافية للكتابات الإبداعية الأدبية، من روايات ودواوين ومجموعات قصصية، تبدو كلها، وعلى كثرتها، وكأنها مقالة واحدة فقط . مقالة واحدة ليس في نسقها الأعلى فحسب، بل في شكل كتابتها الهندسي التحريري وبمضامينها ولغتها وجملها الجاهزة ورؤيتها الناجزة . وهو سلوك كتابي غريب بواحديته، عن بنية المواد التي يتم استعراضهاَ؛ حيث هذه الأخيرة أدبية بهويتها، أي أنها نصوص ملونة ومتعددة ومتفارقة وإشكالية، بل وأساسا قائمة على الفرادة وعدم التشابه .
أحيانا كثيرة يخال المرء، أن لكل كاتب من كتبة تلك المواد الصحافية، قالبا أساسا، يكتب حسبه كل مواده عن النصوص المختلفة؛ حيث في كل مرة يبدل أسماء الرواة والقصاص والشعراء الذين يهم بالكتابة عن إبداعاتهم، ويغير من مكان وتاريخ طباعة المطبوع المستعرض، ويبدل المقتنصات التي أخذها من تلك الكتابات للبرهان على صواب رؤيته ... الخ من الهندسة الكتابية . ففي عالم الكتابة عن الدواوين الشعرية مثلا، ثمة شبه نموذج عام يقف كنسق أعلى على كل تلك المقالات المستعرضة للدواوين، فتبدأ المقالة بالاستغراب من عنوان الديوان، وكل عناوين الدواوين الشعرية غريبة حتما، ثم تشرح المقالة أبعاد ودلالات تلك الغرابة ومقاصد الشاعر من وراء اختيار ذلك العنوان بالتحديد، وبعد العنوان ثمة شرح وتفكيك للإهداء الذي في الصفحة الأولى من الديوان، وبعيد المقدمتين تلك تستعرض تلك المقالات التاريخ الإبداعي لذات الشاعر صاحب الديوان، وذلك بعبارات وجمل جاهزة (وكانت باكورة أعماله الإبداعية ... والحائز على جائزة ... والشاعر الآتي من عالم ... الخ ) وبتلك البنود الثلاثة يكون كاتب المقالة قد أنهى ما يقارب نصف مادته الكتابية . بعد ذلك يلج في عالم النص الشعري في الديوان المستعرض، حيث تكون لديه عدد من الجمل الجاهزة للتعبير عن مضامين ولغة وروح القصائد المستعرضة، فثمة جمل يمكن رصدها تقريبا في كل تلك الكتابات، فمثلا يكتبون: (قصائده مشحونة بالسخرية والمرارة والمغامرة .... في قصائده حساسية مفعمة بالحب، وتكنيك شعري عالٍ، وإدهاش على مستوى الصورة والتداعيات..... شعرية تحتفي بالشكل وتعلن الانفلات من أسر تجاربه الشعرية السابقة..... لغته مفعمة بتوليد عناصر سحرية وغرائبية ... ثمة إشارات على صعلكة شعرية معاصرة .... صادق في التعامل مع القصيدة .... وهو ينقل هواجس وأحاسيس عوالمه الشخصية ...الخ ) وبعد كل عبارة من تلك ينقل الكاتب بعضا من المقاطع الشعرية من الديوان، لإثبات صواب نعوته . في الوقت الذي، هي نعوت وأحكام بها فرط من البداهة . فهل ثمة شاعر لا ينقل هواجسه الشخصية إلى قصائده ؟!، وهل ثمة لغة شعرية غير مفعمة بالأحاسيس؟!، بل وهل هو شعر بالأساس ما لم يتضمن على بنية صعلوكية في اللغة والشكل؟!، وهل القصيدة قصيدة دونما إدهاش؟! ... الخ . وإن تحولت كل تلك العموميات إلى عوالم مستكشفة كل مرة، وفي أي كتابة عن الدواوين الحديثة، ففي الأمر وقوع في شرك النمطية المكررة والواحدية الكتابية، غير الجديرة بعتبة القراءة الأدبية . وطبعا قبل نهاية المادة، لا ينسى كاتب المقالة أن ينقل للقراء مدى تأثره وانفعالاته الحسية حين قراءته للديوان المستعرض ... . وعلى شاكلة هذه الهندسة يكتب كل مقالاته .
في المقالات التي تتعرض للكتابة عن الروايات الأدبية، ثمة سكة أكثر يسرا، فما أن يبدأ العارض مادته الكتابية بذكر عنوان الرواية واسم الراوي ومكان وتاريخ طباعة الرواية، واسم المترجم ولغة الرواية الأصلية، لو كانت غير عربية، ما أن يكر كل تلك السبحة في ربع حجم مادته، حتى يهم بعرض جوهر الرواية، عرض لجسد الحكاية، كيف بدأت وتصاعدت وانتهت، أين ومتى وكيف كانت الظروف في النص المروي، أجواؤها ومناخاتها .. الخ . وتكون المقالة وقتها قد قطعت ثلاثة أرباع الشوط . بعد ذلك يكتب عددا من الجمل الجاهزة، والتي ربما يبدل بين بعضها البعض، بين رواية وأخرى، فيكتب مثلا: (الروائية هنا تسعى إلى التقاط خصوصية البيئة... والشخصيات مرسومة في قالب خاص... شخصيات الرواية مؤشكلة... يبتعد عن كل ما يعيق سلاسة السرد... في الرواية تتداخل الأزمنة والتواريخ والوقائع لتشكل لوحة... في السرد استخدام لتقنية الإحالة... في السرد استخدام لتقنية المونتاج... الرواية في خطوطها العريضة تعبير ..) الخ من المقولات التي تنطبق عليها النعوت التي انطبقت على الجمل الجاهزة عن الدواوين الشعرية . وفي عالم استعراض المجموعات القصصية ثمة قالب قريب إلى قالب الكتابة عن الرواية، مع فارق، انه في هذه الأخيرة، يكتشف المستعرض كل مرة، أن القصص كلها توحي وكأنها قصة لراو واحد، لكن بأشكال شتى (مدد يا عالي مدد)؟! .
القالب
لكن هل ثمة ضير في هذه النمطية الكتابية ؟ .
نعم دونما شك، حسب رأينا . فهذه القالبية (من قالب)، تسعى وتمارس شكلا من المنطق الأخرق، يشبه منطق تربيع الدائرة؛ وذلك من خلال ثلاثة مستويات متفاعلة من ذلك المنطق:
أولا: حينما تذهب لقراءة نمطية واحداوية لكل النصوص الأدبية، فهي تؤسس لفعل تساوي تلك النصوص نفسها، تساويها قيمة وشكلا وجدارة أدبية . وفي ذلك خرق لأبسط قواعد التمايز بين مستوى النصوص، وميل جارف نحو عدمية معرفية . فهل من الحس الرفيع بالعدل أن يتساوى شاعر أو روائي مهم بحضوره الإنساني وأطروحاته الفكرية وجدارته الأدبية، بآخر بسيط وهامشي بتلك المعايير، من هؤلاء الذين يجهدون على تطوير علاقاتهم الشخصية بصحافييّ المقاهي ومديري الصفحات الأدبية في الإعلام أكثر من جهدهم على تطوير ذواتهم ونتاجاتهم، هل حقا من العدالة وحس المسؤولية أن تعدم المسافة بين القرينين هؤلاء . يقال ذلك، وفي البال قارئ عربي، حيث الإعلام والشهرة يحتلان مكانة معيارية في تحديد خياراته ومقاييسه للقراءة .
ثانيا: ثمة في تلك القراءات شبه محو لوظيفة ودور فعل النقد الأدبي، أو إلغاء «للتفكير الثاني» أو «التفكير بالتفكير»؛ حسب مصطلح معار من هيغل . فالنصوص الأدبية، حسب أبسط القواعد الفكرية البنيوية، لا ينهي حضورها واندراجها في الذات الجمعية الاجتماعية بمجرد الانتهاء من نشرها فقط، بل دوما ثمة فعل قراءة ولوك ونقد ثان، يعيد تشكيلها وبرمجتها وحفها، ولا يكتمل حضور النص الإبداعي إلا بعد عملية طويلة من تلك الأفعال، التي في أحيان كثيرة لا تقل أهمية وحضورا عن متن الكتابة نفسها . فالنصوص الإبداعية كما أنها لم تتشكل إلا عبر شكل ومخاض حياتي عام، هي نفسها تناص من تناصاته، هي أيضا لا تحضر ولا تلج هذا العالم الحياتي التاريخي إلا بتأثير تلك القراءات الثانية . ومدى أهمية تلك النصوص وفعلها التاريخي؛ يتوقف في أحيان كثيرة على الفعل الإبداعي في تلك القراءات النقدية الإبداعية الثانية، فالنقد الأدبي بأرفع معانيه هو علمنة للنص الأدبي (العلمنة أي دنيوية الفعل الإنساني). وتلك الكتابات تفعل كل شيء، إلا ذلك العمق المعرفي . ذلك المنطق يقال، في ظرف به ثقة عميقة بوعي القائمين على الحالة الإعلامية ـ المقصود محرري الصفحات الثقافية ـ بدورهم وفعلهم بالحفاظ على حضور النقد الحق، ذلك الدور الذي بات أعمق في شرط غياب دوريات رصينة خاصة بالنقد الأدبي .
ثالثا: حينما لا تذهب تلك القراءات إلى قول شيء ذي بال، مدحا أو ذما، تفكيكا واكتشافا، فأنها تذهب إلى تثبيط فعل التحريض على قراءة «النص ـ الأب» عند قارئ المادة المستعرضة في الصحافة . فتلك القالبية غير محفزة لغريزة الاستكشاف لدى القراء . فالبحث عن النص الأصل يتطلب من المادة العارضة أن تكون غنية بالمحفزات والمثيرات، من خلال تعميق الأسئلة المطروحة في النص الأصل وكشف الأبعاد المكورة والمعاني المستترة، حيث من المفترض أن يكون الكاتب عن تلك النصوص أرفع وأعمق بعدا في كشوفاته تلك على مقدرات القارئ العــادي؛ وبذا اكثر تحريضا له على البحث.
في المرحلة الثانوية، كان معلمو مادة اللغة العربية يصنفون لنا النصوص الشعرية إلى أقسام، فمثلا كانوا يقولون: (لو جاء في الامتحان نص من المجموعة الأولى، فعليكم أن تكتبوا أنه نص من الواقعية الاشتراكية، ويحمل في طياته الهم الاجتماعي ... وإن كان من المجموعة الثانية .. عليكم أن تكتبوا أن النص من العهد الرومانسي وعبارته موحية .. وإن كان .. الخ) . أخذنا علامات جيدة في الامتحانات، حينما اتبعنا ذلك التصنيف، لكن بعدئذ، نسينا كل تلك النصوص، ونسينا المدرس، ونسينا قسم النقد كله ؟!؟ .
رستم محمود
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد