عن اليمين المتطرف الجديد في ألمانيا
مشاهد طوابير مئات آلاف المهاجرين من الدول المستعمَرة السابقة إلى أوروبا وإلى ألمانيا في المصاف الأولى، قد تدفع المرء للسؤال عن ردود فعل السكان على هذه الهجمة على بلادهم، أي على ما يرونه أنه عدوان على مستوى معيشتهم والاستقرار الذي تمكنوا من تحقيقه في أوروبا بعد قرون طويلة من الحروب المدمرة.
هنا فلنتذكر بعض الأخبار المتناثرة الآتية من أوروبا:
ــ مهاجرون مسلمون، ركاب قارب قادم من أفريقيا السوداء يلقون بنحو عشرين مهاجراً مسيحياً من القارب قرب سواحل جزيرة صقلية. يقال: إنهم اختلفوا معهم على أمور دنيوية، فلجأوا إلى سلاحهم الإيماني [كذا!]، فعدوهم نصارى صليبيين كفاراً عبدة صليب، وجب التخلص منهم، ناسين أنهم في طريقهم لطلب اللجوء والحماية والأمن والأمان في دار الكفر، فراراً من دار الإيمان!
ــ مطاوعة، على شاكلة التكفيريين، يجولون في أحياء من مدينة بيلِفِلْد الألمانية، يضايقون السكان، مسلمين وغير مسلمين.
ــ لاجئون سوريون جدد في الإكوادور لم تعجبهم أحوال الإقامة في الدولة المستضيفة لهم والتي لجأوا إليها فمارسوا أعمال عنف وتخريب في مقار إقامتهم طالبين من السلطات نقلهم إلى ألمانيا، طبعاً على حساب الدولة!
ــ شكوى طالبي اللجوء من غير المسلمين من سوء معاملتهم من الحراس المسلمين في شركات الأمن التي تتولى رعاية مراكز الإيواء.
ــ عدد اللاجئين الفارين من دول المستعمرات السابقة وصل عام 2015 إلى ما يزيد عن مليون إنسان، نصفهم فار أو مهاجر من المأساة في سورية، غادر نحو ربع مليون منهم مراكز الإيواء من دون إذن ومن دون تسجيل أنفسهم رسمياً، ما يعني إقامتهم في أمكنة تواجدهم المجهولة على نحو غير قانوني ما يعرضهم لمختلف أشكال الابتزاز والاستغلال، وبالتالي الاضطهاد؛ سنعالج هذه المسألة في عرضنا المقبل لكتاب «صناعة اللجوء» الألماني الصادر أخيراً.
فئات من الشعب الألماني، وفي شرقي البلاد في المقام الأول، صبت غضبها أخيراً على الحكومة أيضاً بسبب عدم استماعها للقلق والتذمر المدويين، والمسألة هنا ليست إن كان محقاً أو ارتدادات موجة فوبيا أو رهاب الأجانب والإسلام، وفي مقدمتهم العرب. فقد ظهرت في الماضي حركات وهيئات مختلفة معادية للأجانب وللإسلام على السواء. وإذا كان ذلك اقتصر في الماضي على فئة اجتماعية محددة، عصابية التنظيم ومنهم «السكنهِدز»، أي: حليقو الرؤوس، فالأمر الخطير الآن هو أن الظاهرة الجديدة تضم مختلف فئات المجتمع.
فمجموعات النازيين-الجدد من السكِنهدز رفضوا في الشارع الألماني بسبب عنفهم حتى تجاه الألمان أنفسهم وسوء أخلاقهم، لكنهم عمدوا إلى تغيير مظهرهم منذ عام 1990 إلى شبيه بملابس اليسار في ألمانيا، واستحال اسمهم إلى «القوميون المستقلون» Autonomus Natioalists، لكن التصرفات العنيفة بل والوحشية في معظم الأحيان، وتكوينهم الطبقي لم يتغير.
هذه المجموعات وغيرها وأفكارها العنصرية وآراؤها النمطية لا تزال تنشط في ألمانيا، وهي بالمناسبة منتشرة في مختلف أنحاء أوروبا، شرقاً وغرباً، ونراها أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية التي تمثلها حركة الشاي (Taxed Enough Already - Tea Party) اليمينية الشعبوية، والتي وصلت إلى أدنى انحطاط عبر مطالبة ممثلها دُنلد دَك بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة الأميركية.
الحياة السياسية الألمانية عرفت في الماضي حزباً نازياً-جديداً اسمه، بالعربية «حزب ألمانيا القومي الديمقراطي» Nationaldemokratische Partei Deutschland ويعرف باسمه المختصر NPD، الذي تأسس في عام 1964 خلفًا لحزب نازي-جديد آخر كان اسمه حزب الإمبراطورية الألماني – الإمبراطورية = رايخ/ Deutschereichs Partei وأحزاب صغيرة أخرى انضمت إليه. الحكومة الألمانية حاولت قبل فترة قصيرة إعلانه حزباً معادياً للدستور ما يعني بالتالي حظر نشاطه ومصادرة ممتلكاته، إلا أن الاستخبارات الداخلية الألمانية، المعروفة باسم «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» Bundesamt fuer Verfassungsschutz اعترضت بذريعة أن مخبريها اخترقوا الحزب اليميني المتطرف، ووصلوا إلى أعلى المراتب فيه، وحظره سيحرم الدولة من مصادر معلومات عن نشاطه وأعضائه السريين.
مع تزايد أعداد المهاجرين من المستعمرات الأوروبية السابقة، التحقت أعداد جديدة من الألمان بالحركات المعارضة للهجرة وللمشهد السياسي التقليدي السائد، أكثرها شهرة بيغيدا Patriotische europaeer gegen islamisierung des abendlandes, PEGIDA)، والاسم معناه في العربية (أوروبيون وطنيون مناهضون لأسلمة العالم الغربي).
هذه الحركة تأسست في شهر تشرين الأول عام 2014 بمدينة درِسدن الواقعة في جنوب شرقي البلاد، في الفترة نفسها التي شهدت فيها المدينة وغيرها أحداث عنف منها صدامات بين الكرد من مؤيدي حزب العمال الكردستاني (PKK)، المناهضين لتنظيم الدولة، وسلفيين عرب مؤيدين للتنظيم. كما شهدت شوارع مدينة تسِل صدامات بين إيزيديين معادين لدولة إبراهيم البكري وشيشان مؤيدين لها.
تلى ذلك تظاهر آلاف الألمان في مدينة كولونيا ضد الأجانب، مارس بعضهم أعمال عنف وشغب فيها.
مدينة بلاوِن الواقعة في شرقي ألمانيا تشهد تجمع مواطنيها مساء كل أحد في وسط المدينة التاريخي في تظاهرة أطلقوا عليها، بالعربية، اسم نحن ألمانيا/ Wir Sind Deutschland. هذا التجمع الأسبوعي يوافر منصة لكل متحدث ضد فتح أبواب ألمانيا أمام الهجرة واللجوء. لكن مع استمرار تدفق اللاجئين والمهاجرين انتقلت الشعارات إلى مرحلة جديدة من التطرف حيث اتهم متحدثون المستشارة ميركل بالخيانة العظمى. ومن بين المتحدثين في أحد أيام الآحاد كان بروفسور من جامعة تبنغن الشهيرة الذي حدث مستمعيه عن القضاء على آخر المسيحيين في البلاد العربية.
حركة بيغيدا عمدت إلى تنظيم تظاهرات أسبوعية منذ تأسيسها، وقد لاحظ المراقبون أن المشاركين كانوا في أغلبهم من الوسط المحافظ المسيحي، ومنهم مثقفون وأساتذة جامعات محافظون وأطباء وغيرهم من نخب الطبقة الوسطى.
هذه المجموعات والحركات المناهضة للمهاجرين والإسلام من دول المستعمرات السابقة أسست لنفسها مواقع في الإنترنت لنشر آرائها وتبادل الخبرات مع مجموعات أخرى تشكلت لاحقاً في دول أوروبية أخرى. كما أنها تستعين بمواقع التواصل الاجتماعي لتنسيق نشاطاتها وشعاراتها، ومنها «الغزو الإسلامي» و«ألمانيا استحالت مزبلة الإسلاميين»، ووصل عدد المتابعين لمواقعها على الفيسبوك إلى مئات الآلاف.
المراقبون لاحظوا تحول أفراد من بيغيدا إلى العنف الذي وجه أحياناً نحو الصحافة. بل إن مرشحة مستقلة لمنصب محافظ مدينة شتوتغارت تعرضت لمحاولة اغتيال عندما هاجمها أحد أفراد اليمين المتطرف بمِدْيَة وأصابها بجراح خطيرة. الدافع، وفق المعتدي، تأييدها لاستمرار قبول اللاجئين.
ثمة استطلاعات رأي عديدة تجرى في ألمانيا بخصوص هذه الظاهرة الخطيرة، لكن معظمها مسيّس هدفه التقليل من «الخطر» وصبغ المجتمع الألماني باللون الأخضر؛ دوماً خوفاً من الماضي النازي، ذلك أنه لا يزال يعاني ابتزاز أصدقائها وحلفائها الأوروبيين، ومن كيان العدو وممثليه في المنظمات اليهودية/ الصهيونية، بسبب ماضيها النازي.
حركة بيغيدا عمدت إلى تنظيم تظاهرات أسبوعية منذ تأسيسها
جامعة دريسدن بدورها أجرت استفتاء بين مجموعة من المشاركين في تظاهرات بيغيدا سألتهم عبره عن أسباب امتعاضهم وخوفهم. أجاب 53%: امتعاض من الحياة السياسية، و23%: رهاب الإسلام، 15%: المهاجرون، و20%: امتعاض من الإعلام، الذي بات يعرف بأنه صحافة الكذب (Luegenpresse). وللتذكير فقد كنا عرضنا الكتاب الألماني «صحافيون أجراء» في عدد «الأخبار» 2552 الصادر بتاريخ 27 آذار الماضي، أكد فيه المؤلف أن 75% من الصحافيين الألمان أجراء لدى مموليهم من صناعة واستخبارات محلية وأجنبية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد استحدث مفكرون أوروبيون ليبراليون مصطلح مشابه في اللغة الإنكليزية هو «Presstitute» المشكل من كلمتي (Press/ صحافة) و(Prostitute/ داعرة)، واقترح أن يرادفها بالعربية مصطلح «صحارة».
اتحاد النقابات الألماني قام بدوره بإجراء بحث في التركيبة الفكرية للحراك اليميني الشعبوي، عبر مؤسسة مرتبطة به هي «صندوق أُتو برِنَر» Otto Brenner Stiftung ليتبين أن المشاركين فيه ومؤيديه لا يصفون أنفسهم بأنهم يمينيين، وبالتالي فإن انتشار الفكر صار يوصف بأنه عابراً للحدود العَقِدِيَّة (Cross Front).
بعض سياسيي ألمانيا يدعون أن الحركة تتركز في شرقي ألمانيا حيث لم يكن للسكان هناك تجربة تاريخية مع الأجانب علماً بأن الحضور التركي هناك يعود إلى فترة ما بعد الحربين العالمية الأولى والثانية، حيث «كُتب» على فلاحي الأناضول المساهمة في إعادة بناء ما دمرتاه. لكن استطلاع رأي أظهر أن المتفهمين لحركة بيغيدا في الشرق يصل إلى 53%، وفي غربي ألمانيا إلى 48% ما يبرهن على مدى تغرب سياسيي البلاد وابتعادهم عمن من المفترض أنهم يمثلون، ويقودون.
التطرف في حركة بيغيدا وصل إلى درجات مقلقة لقادة ألمانيا التقليديين، ولليسار أيضاً، حيث حمل بعض المشاركين في تظاهراتها علم ألمانيا ـ بسمارك، كما رفعت ملصقات مصور عليها مشنقة خشبية مكتوب عليها «مخصص لماما أنجيلا»، وهي إيماءة سخرية من لاجئين سوريين رفعوا لافتة مكتوب عليها «ماما أنجيلا/ Mama Angela»! كما رفعوا لافتة مشابهة تحمل اسم نائبها وهو من الحزب الاجتماعي الديمقراطي.
هذه الحركة وغيرها، لا تقتصر مطالب بعض قياداتها على وقف الهجرة ومنع اللجوء، بل تتجاوزها إلى المطالبة بالخروج من حلف الناتو والتحالف مع روسيا وإلغاء عملة اليورو. واتهاماتهم توجه نحو السياسيين الذين يتهمهم الجمع بالخضوع لإملاءات رأس المال، وكذلك تجاه «صحافة الكذب» المحلية والقومية.
بيغيدا، وغيرها، يقودها مجموعة من السياسيين والناشطين انتموا سابقاً إلى الأحزاب التقليدية، ليشكلوا أحزاباً جديدة منها حزب Freiheit/ الحرية المعادي للإسلام. ميخائيل شترتسنبرغر يرأس هذا الحزب وكان في الماضي الناطق الصحافي لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CSU)، المشارك في حكومة أنجيلا ميركل. ميخائيل هذا مساهم منتظم في صفحة الويب في الإنترنت المعروفة باسم Politically Incorrect، أي: غير مستقيم سياسياً المعادية للإسلام والهجرة، لكنها تعلن عن التزامها بالدستور، وحبها للولايات المتحدة الأميركية، وولعها بدولة العدو الصهيوني ما منحها حصانة، ربما مؤقتة، ضد المنع القانوني.
جنوح اليمين نحو التطرف لم يخل من تصاعد أعمال العنف تجاه الأجانب حيث ارتفع عدد الهجمات على المباني المخصصة لإيواء المهاجرين واللاجئين إلى 400% في عام 2015. أما عدد إحراق مآوي اللاجئين والمهاجرين فقد تضاعف 11 مرة، وذلك وفق الأرقام الرسمية التي تميل إلى التقليل من مقاديرها الحقيقية. الشرطة الاتحادية تحذر من أن أقلية من مرتكبي هذه الهجمات هم أفراد من اليمين المتطرف، ما يعني انتشار الفكر المعادي للإسلام والأجانب بين مختلف طبقات المجتمع الألماني وفئاته، وبالتالي انتشار أيديولوجية شعبوية. ويتجلى هذا، ضمن أمور أخرى، في أن المعلقين في مختلف مواقع الويب المعادية للمهاجرين واللاجئين والإسلام صاروا يوقعون تعليقاتهم العنصرية بأسمائهم الحقيقية بدلاً من أسماء مستعارة.
وعلى شاكلة بيغيدا تأسس عام 2013، إبان أزمة اليونان المالية، تشكل حزب «بديل لألمانيا» Alternative fuer Deutschland - AfD، وهو تجمع يميني شعبوي معادٍ للاتحاد الأوروبي حصد نحو 10% من أصوات الناخبين للبرلمان الأوروبي وحصل على مقعدين فيه. وهو ممثل بنحو مخمسين مقعداً في المجالس المحلية لبعض الولايات. هذه الانتصارات حصلت رغم صراع قياداته العلني على المناصب، تحت ذرائع عقدية وسياسية.
وثمة تخوف عام من وجود تنظيمات نازية سرية تنتظر الفرصة للانقضاض على المشهد السياسي في ألمانيا. فتجربة التنظيم الإرهابيNationalsozilistische Untergrund - NSU/ الاشتراكيون القوميون السريون، المسؤول عن جرائم قتل بحق أجانب (أتراك ويونانيون) وألمان لا تزال حاضرة، إضافة إلى تفجيرات وأعمال سطو على مصارف وغيرها من الجرائم، لا تزال حية. فقد استمر ذلك التنظيم السري في العمل مدة 13 عاماً من دون أن يكتشف، وثمة رأي سائد عن تورط ضباط الاستخبارات الألمانية الداخلية في التغطية عليه حيث قام بعضهم بإتلاف وثائق (حماية الدستور) عن التنظيم عندما طلبها المدعي العام. وللعلم فإن اكتشاف ذلك التنظيم تم بالصدفة عندما أقدم شخصين من قيادته على الانتحار بعد إخفاق محاولتهما السطو على مصرف، ولم يبق منها سوى امرأة تجري محاكمتها حالياً. الفضيحة المستمرة قادت إلى استقالة رئيس الاستخبارات الداخلية وإبعاد آخرين من الجهاز إلى مواقع أخرى وإحالة غيرهم إلى التقاعد.
الضربة القاضية لسياسة الباب المفتوح لطالبي اللجوء التي أعلنتها المستشارة أنغيلا ميركل، أتت في ليلة رأس السنة الميلادية حيث مارس طالبو لجوء عرب عمليات سلب وتحرش جنسي جسدي جماعي بنساء ألمانيات، لم يقتصر على محطة قطارات مدينة كولونيا، بل حصل في مدن ودول أوروبية أخرى منها سويسرا والنروج وفنلندا. بعدها لم ينتظر السكان تدخّل الشرطة التي وقفت متفرجة على أحداث مدينة كولونيا ما اضطر رئيس شرطتها للاستقالة، فقاموا بتشكيل ميليشيات محلية في الأحياء تطارد الأجانب ما يعني سقوط أحد أهم مقومات الدول الحديثة، أي احتكارها للعنف.
التطورات المستقبلية في ألمانيا وشكل الحياة الحزبية فيها سيعتمدان، من منظورنا، على مدى تمكن الأحزاب اليمينية الرئيسة، الحاكمة، من السيطرة على حركة الهجرة واللجوء، ما يعني، بالضرورة، تبنيها الفعلي والعملي، لكن خالٍ من المفردات العنصرية، مطالب اليمين المتطرف، تماماً كما حدث من قبل مع حزب الخضر. هذا الحزب تأسس يسارياً معادياً للرأسمالية، والإمبريالية، ورئيسه الأسبق ومن المؤسسين، يوشكا فِشَر، وزير خارجية ألمانية السابق، كان من قبل يعمل بائعاً في كُتبية كارل ماركس في مدينة فرانكفورت ماين! الحزب انتهى إلى أن يصبح قواد العدوان الناتوي على يوغسلافيا والمشاركة في العدوان على أفغانستان والحرب فيها. فالخضر، أرادوا أن يصبحوا جزءاً من الطبقة الحاكمة فتبنوا الخطاب الرسمي، الدستوري، وتخلوا عن الخطاب اليساري، مقابل تبني الأحزاب التقليدية خطابهم عن البيئة والذي أدى، ضمن أمور أخرى، إلى إعلان ألمانيا إغلاق كل محطات توليد الطاقة النووية فيها في غضون السنين الخمس المقبل. التطورات في اليونان ومن بعدها في إسبانيا، حيث ظهرت أحزاب «يسارية» فرضت أجنداتها أمراً لم يكن متوقعاً. والميل المستمر لحكومات أوروبية منها المجر وبولونيا وتشيكيا وتركيا وفرنسا، نحو التطرف والتضييق على الحريات الشخصية والسياسية، والحد من سلطات المحاكم الدستورية والقضاء والإعلام لم يكن وارداً، نظرياً. لكن جوهر النظام الرأسمالي يبقى كما هو، عدوانياً خارجياً وداخلياً.
للتذكير، كنا أشرنا في عمودنا الدوري «شذرات» في جريدة «الأخبار»، عدد 2704 الصادر يوم الخميس 1 تشرين الأول 2015، إلى قناعتنا بأن الأعمال الإرهابية في الغرب لا تسقط حكومات أو دولاً، وإنما ستغوي الطبقات الحاكمة فيها للاستفادة منها لفرض تغييرات دستورية تحد من الحريات الشخصية وفرض هيمنتها الكاملة على الدولة والمجتمع، وكتم كل أصوات معارِضة لسياساتها الاقتصادية المدمرة للطبقات الفقيرة والمتوسطة، بذريعة أولوية محاربة الإرهاب والأمن على الحريات. أما السبب الحقيقي للتدهور الاقتصادي في دول أوروبا، الذي تتجاهله «صحافة الكذب» فهو نتاج سياسات العولمة وتوحيد العملة الأوروبية وغير ذلك؛ أي من عدم مقدرة النظام الرأسمالي المعولم على تجنب المشاكل الاقتصادية والفكرية والسياسية لأنها جزء ناتج من أسس بنيته.
الحركات اليمينية المتطرفة لا نظن أنها ستتمكن، في المستقبل المنظور، من دخول البرلمان الاتحادي أو برلمانات الولايات الألمانية بقوة، لكنها تمكنت حتى الآن من فرض مطلبها الرئيس في خطابها الرهابي على الأجندة السياسية اليومية، وإجبار الأحزاب التقليدية على تبني مطالبها بوقف الهجرة. كما ارتفعت دعوات سياسيين من الأحزاب الحاكمة إلى فتح حوار مع حزب «بديل لألمانيا»، الذي يعد الآن التجمع اليميني المتطرف الأخطر والأقوى.
الخطر مستقبلاً، يبقى، رغم كل هذا، يكمن في تبني الأحزاب التقليدية مطالب المتطرفين، وإن مراوغة، فانعطاف الشارع والناخب نحو التطرف اليميني يعني أكثر من سياسة مؤقتة. ويجب أن لا ننسى أن أوروبا الغربية الرأسمالية تسببت، إلى الآن، في اندلاع حربين عالميتين مدمرتين.
زياد منى
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد