غادة السمان «العاشقة» في 5 غرف..وقلب
ينتمي كتاب الروائية والاديبة غادة السمان «القلب العاري.. عاشقاً» الصادر حديثاً عن «منشورات غادة السمان» الى النمط الادبي الوجداني والنقدي والرؤيوي، المتألق بطويته الشفافة، والمنطوي على ما يمكن وصفه بلذاعة السخرية المتنوعة الأسواط.
الكتاب يحمل في روابطه العاطفية والفكرية، مفاتيح الغرف المقفولة في ارض الكلمة وحقولها وفضائها وأناسها. وكلما فتحت الكاتبة غرفة، وجدنا انفسنا امام مقتنيات ايحائية ودلالية جديدة. بحيث أمكننا القول - تقديرياً - ان الكاتبة دخلت الى خمس غرف هي:
- غرفة الزمن.
- غرفة الصور.
- غرفة المكان.
- غرفة الذاكرة.
- غرفة الموت.
اما المقر الذي احتوى كل هذه الغرف، فكان القلب، او كان الحب الذي حمل في فيضه الرسم «الشمسي» لهذا القلب. فنحن امام قلب عشق وسخر وغاص وتهكم ووفى وفجع.. فسجل بقلمه بأن «العمر أبجدية»:
- - تقول غادة في الاهداء المخصص للكتاب: «الى بشير الداعوق صاحب الفضل الاول على مسيرتي الادبية، وشريك العمر الأبجدي» إذاً فالعمر هنا كتابة. وتقول في النص الاول من الكتاب:
«ها قد مر عام على رحيل جسدك
عن طاولتك مقابل طاولتي في غرفة مكتبنا.
عام؟ «روزنامات» العالم وتقويماته كلها تكذب..
ساعة هارون الرشيد التي أهداها لـ«تشارلمان» تكذب... حدث «اختفاؤك» قبل ثانية واحدة لا قبل عام.
ثانية واحدة فقط انقضت
منذ اللحظة التي أفلت فيها بيدك
في المستشفى وانت تغادر جسدك بهدوء..
ثانية واحدة بتوقيت قلبي».
إذا فالزمن هنا مهجة، لذلك وانطلاقاً من هذين التدويرين لمعنى الزمن، استطاعت الكاتبة ان تنسج بساطاً شفافاً مخففاً دافئاً وقوياً، في رحلة طيرانها الى غيوم الذكرى والوجد والفقدان. وجعلتنا نقف بين جدران غرفة الزمن، وقوفاً رمزياً، حيث لا مكان لعقارب الساعة فيها، ولا مكان لرزنامة الايام... وحده النبض هو الذي تضبط عليه ماهية القلب العاري عند غادة، ووحدها الأبجدية هي التي يحسب بها العيش في رحاب هذا العري.
الصور، في نصوص غادة لا تأخذ حجمها او شكلها المألوف... انها صور مربعة ومسدسة، ملامحها مقوسة، ومعانيها تتماهى احياناً مع الرصاصة.
- تقول في «صيف شرقي» - ص 32-:
انا المرأة الشرقية
ولدت على فراش المسامير كالفقير الهندي
آكلة النار في الأسواق والقوافل
بوسعي ابتلاع السكاكين في السيرك العربي الكبير
هل عرفتني؟ انا امك واختك وحبيبتك..
وأعز اعدائك،
فيدك دوماً على خنجرك متأهبة لطعني».
.. الصور رقيقة، ملونة، يدوية، رقمية وكل انماطها ودلالاتها مستخدمة في الكتاب لتعكس صورة القلب العاري العاشق.
اما المكان فهو حفر من الجانب الآخر.. لا بالآلة، ولا بالبلدوزر ولا باليد، بل بالعقل الذي يعتمد على اللغة والمخيلة والنبض، وفي هذا الاتجاه نقرأ ما كتبته السمان في «غواصة القلب» - ص 41 -:
«انا منفية الى الذاكرة، منفية الى الوطن
منفية الى الحياة بعيداً عن مملكتك
منفية الى حزني عليك، منفية الى غدر الفرح
منفية الى سكاكين اشواقي المناكدة
منفية الى الرحيل من جديد،
صوب فنادق نائية غامضة في مدن المطر والحرية والوحشة».
الى ذلك تغدو الذاكرة عند الكاتبة منوطة بأدوار محورية: دور الاسقاط الثقافي على رؤية الحياة، ودور الاسقاط اللغوي على التواصل مع القارئ، ودور الجلاد الذي يجلد بعض ذكرياته.
نقرأ - ص 20 -: «لا، احب المناحات في الذكرى السنوية الاولى لرحيلك، وسأحتفي بالايام الجميلة التي عشتها معك.
بدلاً من البكاء على ما لم نعشه
ولن اردد مع غراب إدغار آلن بو:
آه، لن يكون ذلك ثانية.. آه لن يتكرر ذلك ابداً!
بل سأردد مع البوم: يا لسعادتي لأن ذلك كان.. ولأنني عشته».
ونقرأ ص - 60 - : «من جديد، وبعد ثلاثة عقود من بيروت «75» وكوابيسها تنهض عرافتي «خاتون» من قبرها وهي تعول وتحذرني وتنتحب صارخة برؤيا جديدة مرعبة قائلة: ارى دماً.. كثيراً من الدم! أتركيني بسلام يا «خاتون» العرافة فقد تعبت، ولا اريد ان اعرف!
تعبنا، قرائي وأنا، ارجوك اذهبي،
الى كاتب آخر بنبوءاتك الشكسبيرية المرعبة!
فحتى الذين لم يولدوا بعد تعبوا..
واتركيني.. امرأة من الثلج في زمن الغربة والحرية».
ان الانتقال بين هذه الغرف التي تخبئ في زواياها وأسقفها وأرضيتها الكثير من الافكار والصور والمعاني والعبارات اللامعة، ينتهي بالقارئ الى محطة الوقوف عند ملعب الموت. وفي هذا الملعب تمارس غادة في النص تمارين على الموت خارج النص. فتقول في «تمارين على موتي» - ص 138 -:
بمناسبة الذكرى السنوية الاولى لرحيلك
أهديت نفسي عنك هدية.
فاشتريت اليوم سريراً جديداً...
اخترته قصيراً وضيقاً كتابوت
يتسع لي شرط ألا أتحرك
سأنام الليلة فيه..
لأنني قررت ان ابدأ تماريني السويدية على موتي»!.
غادة علي كلش
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد