غادة السمان: المهنة «متمرّدة»
هل أضحت غادة السمّان كاتبة افتراضية؟ الأرجح أنّ الأمر كذلك. هناك فقط صورها القديمة وهي تحتضن طائر البوم الذي بات قرينها، منذ أن اختارته شعاراً لكتبها. لا مقابلات تلفزيونية على الإطلاق، ولا مشاركة في ندوة أو لقاء أدبي، كي نتعرف إليها عن كثب، بعد طول غياب. حضورها عن طريق المراسلة، كأن هذه الكاتبة المتمردة لا ترغب بأن تهتز صورتها اليوم في ذهن الآخرين. المرأة الفاتنة في ستينيات القرن المنصرم التي دوّخت عشرات العشاق في دمشق وبيروت تختفي وراء الورق، وتشحن المعجم بمفرداتها المعجونة بالرفض، لتشعل الأبجدية بنيران الشوق والترحال، كأنّ «الجسد حقيبة سفر» فعلاً، لا يطمئن إلى مكان ٍدائم، كي لا تفضحه مرايا الزمن.
تعيش غادة السمان (1943)، في اللغة، مثلها مثل نزار قباني... أو أنّها تشبهه بلاغياً في التمرّد والجملة المارقة والحفر في الكلمات. هناك حياة كاملة تنمو في أحراج اللغة، عدا تلك القنبلة الانشطاريّة التي فجّرتها منذ سنوات، حين نشرت رسائل غسان كنفاني إليها. وإذا بالقبائل كلّها تستيقظ على عار الفضيحة لصورة «المناضل عاشقاً»، فرجمتها في ساحة عامة واتهمتها بالخطيئة، وصبّت لعناتها على كاتبة جريئة قرّرت أن تُفرج عن بعض أسرارها وأوراقها الشخصيّة ورسائلها الغرامية.
هذه الهزّة الأرضية المباغتة، قادتها ربما إلى مراجعة تموضعها في خندق الكتابة، وذلك حين نشرت مذكراتها على شكل رواية في «الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية» (1999)، واختارت اسم «زين» كي تروي سيرتها «الافتراضية»...
في كتاب «غادة السمان: المهنة كاتبة متمرّدة» (منشورات دمشق عاصمة الثقافة العربية ـــــ 2008)، حاولت سمر يزبك مقابلة صاحبة «ختم الذاكرة بالشمع الأحمر» من دون جدوى: وعود على الهاتف وفاكسات متبادلة، انتهت أخيراً بإنجاز الكتاب بعيداً عن صاحبته... وهو ما تكرر تماماً، في موافقتها المبدئية على زيارة دمشق للمشاركة في احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» ثم اعتذارها المتوقّع في نهاية المطاف. تنفي سمر يزبك الفكرة التي تقول إنّ غادة السمان حبيسة صورتها عن نفسها: «أعتقد بأننا نختبئ من البشاعة داخل مكان خاص لعيشنا، وغادة تختبئ داخل مكانها الخاص بالعيش، وهو مكان متوحش، وبرّي فعلاً، يشبه روحها، لا يطاوعها دائماً، لكنّه يسمح لها بالاعتقاد بفعل الحرية، ربما هي وحيدة ولا تحتاج الآن إلا إلى ملعبها البري: نصها».
في قراءتها لأعمال صاحبة «عاشقة في محبرة»، تشير سمر إلى هيمنة ثيمتين أساسيتين على نصوص غادة السمان: «التمرد على مجتمع سكوني مستعبد، وتمرّد نسوي على الوضع الجنسي الذي تعيشه المرأة العربية». هكذا، اقترنت التجربة الحياتية بالنص لتدخل المناطق المحرّمة، وهي بذلك رائدة الكاتبات العربيات في اقتحام قاموس الجرأة لإعلان حريتها القصوى في مجتمع ذكوري لا يستسلم بسهولة لحبر أنثوي طليق... كأن هذه الكاتبة «تكتب بالسكين مثلما يفعل رسام قلق ومجنون».
في بيروت الستينيات، المدينة التي أسهمت في تكوين وعي غادة السمان، أعلنت تمردها الحقيقي، وناوشت بمقالاتها الصحافية كل المناطق المحرّمة على أنثى مثلها، وعاشت قصص حب عاصفة من دون تردد أو مواربة... ما أربك الجميع من حولها، وهي تميط اللثام عن أقنعة كثيراً ما كانت ترفضها في كتاباتها وحياتها: امتطت الدراجة النارية «فيسبا» في شوارع بيروت، واقتحمت أماكن الليل كأي فتاة متمردة تعيش زمن «الروك» جسداً وروحاً، وإذا بها «سيمون دوبوفوار» أخرى، تتحدّى محيطها لتعيش قناعاتها وفلسفتها في الضياع والاغتراب والحرية والفوضى والقلق الوجودي.
في قصائدها، شحنة أخرى من البوح العالي، وأمواج الأنوثة المتفجرة والعري اللغوي، والنرجسية المفرطة: «أنا المرأة التي غرّبتها المراكب، وخذلتها حين لم يبقَ لها من الأشرعة غير جناحيها، تعلّمتْ كيف تتحوّل من امرأة إلى نورس».
وتلفت يزبك إلى تعانق الكتابة والحياة لدى غادة السمان: «يحيّرنا أيهما في خدمة الآخر، فهي محبة للحياة من الوريد إلى الوريد، وللكتابة أيضاً. ولم تقم بخطوة في حياتها إلا لتكتب». هكذا عاشت الحياة كتجربة للكتابة، وهي تعلم أنّها في كل علاقة مع رجل ستخرج خاسرة، وبجرح سيكون سبباً للبوح مرة أخرى على الورق. ولعل هذا الشغف العارم بالحياة هو ما أشار إليه غالي شكري في كتابه «غادة السمّان بلا أجنحة» (1980)، فهو يكتب: «كما لو كانت في حالة تقمص دائمة، تحيا أكثر من حياة في اللحظة الواحدة. الحلم في حياتها ليس شريطاً سحرياً تديره مخيلتها أثناء النوم. إنه حياة».
في الحوارات التي اختارتها سمر يزبك من أرشيف الكاتبة، نتعرف إلى أفكار صاحبة «أشهد عكس الريح» (1987)، ومفهومها للكتابة والزمن والشهرة. في سؤال «هل أنت كاتبة إباحية؟» تجيب: «نعم ،أنا إباحية، أبيح لنفسي الحقوق الأدبية كلها الممنوحة للرجل، وأؤمن بحق ليلى بأن تغني جرح قلبها». ثم تكمل بمراوغة لغوية «ببساطة لست إباحية، ولست رابعة العدوية. أنا مواطنة متلبّسة بالكتابة والصحو..بالصدق واحتقار الأقنعة». وتتساءل مستنكرةً: «لماذا لا نرى العهر السياسي، ونركّز على الشق النسائي للمأساة؟ ولماذا لا نرتجف غضباً لاستباحة جسد الأرض والتاريخ... ونستعر هياجاً أمام أي تجاوز (جنسي) نسائي؟».
في كل حواراتها وكتاباتها، تفضح غادة أصحاب الأقنعة، وتطالب علناً بالكشف عن الزيف الذي يغزو حياتنا في وضح النهار. تقول: «الزمن يبدّل كل شيء. وفي عالمنا العربي، تبدّلت أقنعة الازدواجية، فصارت تتنكر بالخرافي والمقدّس، ولكنها ما تزال تعاني من الدوران حول الجرح الأصلي هرباً من مواجهته».
لا يمكن النظر إلى تجربة غادة السمّان في مرآة واحدة. إذ تتعدد مراياها تبعاً لتعدد وجوهها الإبداعية: فهي الرحّالة الغجرية بين مدن العالم... وهي من هتك حجب «التابو» والمحرّمات الموروثة من العصور الظلامية، وأرست منهجاً تحررياً وطليعياً في الكتابة... وكذلك هي من فتح صندوق الأسرار لتفرج عمّا هو مسكوت عنه بأقصى حالات الجرأة والمكاشفة والعلنية، وتمشي حافيةً فوق حقول من الألغام.
- تفسّر غادة السمّان اختيارها طائر البوم كتميمة لها أنّها مثل البومة تحب الليل وأن البوم حزين ووحيد ورقيق، وليس دليل نحس وشؤم، كما يعتقد الآخرون. لكن الكاتبة استعارت أكثر من جناح لتحلّق بعيداً عن أرضها الأولى. ولعلها من الكاتبات القليلات اللواتي كتبنّ في أدب الرحلات، ففي جعبتها أربعة كتب في هذا السياق: «الجسد حقيبة سفر»، و«شهوة الأجنحة» و«القلب نورس وحيد»، و«رعشة الحرية». سيرة امرأة وحيدة وحزينة في مدنٍ غريبة تكتب انطباعاتها ويومياتها بين نيويورك وغرناطة وباريس وجنيف. تتشرّد بين المطارات وتحت المطر لتعيش نشوة اللحظة بكل كيانها. كأن السفر ملح الكتابة لديها، والملاذ الآمن لحريتها واستقلاليتها. غجرية لا تنتمي إلى مكانٍ دائم. تحنُّ إلى دمشق ولكنها تعيش في باريس. غائبة وحاضرة. كتبها تحتل واجهات المكتبات بمختلف لغات العالم، وبطبعات متتالية. هناك على الدوام قارئ جديد يتسلل إلى سطورها ليكتشف ثراء التجربة الشخصية التي بدأت من أسوار جامعة دمشق. وحين اختلفت مع أحد المدرسين في قسم اللغة العربية، هجرت القسم ودرست اللغة الإنكليزية. في مطلع الستينيات، كتبت دستوراً خاصاً بحريّة النساء ونشرته في إحدى الصحف الدمشقية، فأثار عاصفة عاتية. في الدستور، تناولت الأوضاع الصعبة التي تعانيها المرأة في مجتمع محافظ لا يرغب في التغيير، ودعت النساء إلى عدم استعذاب القيد. تقول «فلنصلِّ من أجل الجارية التي تعشق أصفادها، لسنا ندري في أي كهف اعتادت أن تُجلد، لكننا نسمع نحيب استسلامها. رمينا لها بالحياة فبصقتها، صهرنا لها السلاسل، فعادت تجدلها لسيد ما، كي يقيّدها من جديد، لأنها تخاف أن تحيا، ولأنها أجبن من أن تتحمل مسؤولية الحياة». لم يتوقف نص غادة السمان في منطقة الأنوثة وحدها، بل تعداها إلى لغة جسورة بأطياف متعددة، تنسف كل المعوقات التي تواجهها بمنتهى الجرأة والجنون والعبث. ألم تقل مرةً «الكتابة جنوني المطلق؟».
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد