غسان الرفاعي: «الحريم السياسي» وعقارب الساعة
-1-
هذه التسمية الاستفزازية «الحريم السياسي» ليست لي، وإنما للكاتبة المغربية (فاطمة المرنيسي)، سمعتها منها، حينما التقيتها، منذ سنوات، ثم جعلت منها اسماً لكتاب جديد، لعله من أعمق كتبها، في البدء، أطلقت هذه التسمية على «واقع المرأة المسلمة»، ثم توسعت، وصارت عنواناً للواقع السياسي العربي الذي يدور -كما تزعم الكاتبة-حول قطبين: السلطان المطلق من أعلى ـ والحريم السياسي من أسفل، وقد تجدد اللقاء مع الكاتبة المغربية مؤخراً، فتوصلنا إلى قناعات شبه مشتركة، بل خيل إلي أننا في «خندق واحد».
تكتب (فاطمة المرنيسي)، في شيء من الفجاجة: «تشعر الأنظمة العربية، وكأنها فقدت رجولتها، ولهذا تبالغ في توريم فحولتها، ولو عن طريق الخداع، ومن هنا إصرارها على عرض عضلاتها المترهلة على مواطنيها من جهة، وتحويل المواطنين إلى «حريم سياسي مدجن» من جهة ثانية. قد يكون السبب الذي دفع هذه الثائرة المغربية إلى التوصل إلى هذا التشخيص السريري القاسي، المستمد من أدبيات (فرويد)، هو شعورها بأن المجتمع العربي، على الرغم من تطوره وتحرره النسبي، مازال (مجتمع ذكور) بالدرجة الأولى، وبالتالي، مازال يعتبر اقتحام المرأة لميادين الحياة العامة نوعاً من «الكشف عن العورة»، ولكن الشيء المثير عندها هو توصلها إلى نتيجة مذهلة إلى حد كبير.. تقول في خاتمة كتابها: «يخيل إلي أن السلطان العربي يتخوف من الديمقراطية، لشعوره بأنها ستكشف عن عورته وعورة النظام الذي هندسه على مقاسه ومقاس مصالحه العشائرية والخاصة»، ومن هذا المنظور يصبح الاستبداد هو الحجاب الذي يسدله النظام العربي على كل بثوره وقباحاته، تماماً كما كان السلطان يطالب نساءه بإسدال الحجاب على وجوههن، بدافع من الأنانية والشعور بالنقص.
-2-
قد يكون كتاب «الحريم السياسي» قد شاخ الآن، بعد مضي خمس سنوات على صدوره، ولكن الإشكاليات التي طرحها لا تزال طازجة حتى الآن، ولعل أهميته –في نظري- هي فيما هو هامشي منه لا فيما هو جوهري، لقد كان الهاجس الأكبر عند (فاطمة مرنيسي) هو المرافعة عن حق المرأة العربية في التحرر والمشاركة، ولكنها، من حيث شاءت أم لم تشأ، وضعت «مرثية» في الإنسان العربي المعاصر، وبدا هذا واضحاً في تركيزها على ثلاث أفكار، تلخص «المأزق» الذي يعيشه هذا الإنسان.
يشكو الإنسان العربي من «داء الحاضر» تماماً كما كانت الشبيبة الأوروبية الرومانطيقية تشكو من «داء العصر»، وفي حين يعيش الإنسان العربي داءه كغياب انتحاري، ورغبة مأساوية في الهرب باتجاه الماضي، كانت الشبيبة تعيش داءها كهم يومي، ورغبة في استشراف المستقبل. و(عابد الجابري) هو من أوائل الذين فضحوا ما سماه الزمن -الجرح- حيث تحدّث عن عقدة المستقبل المتغير عند الغرب، في مقابل عقدة الماضي الميت عند العرب. يكتب «في تكوين العقل العربي»: «يتجه الإنسان العربي إلى الماضي تفتيشاً عن العقلانية والتقدم والعلم، أي إنه يهرب إلى الماضي بهدف التأقلم مع العصر، وفي حين يحكمنا الغرب من المستقبل نقاومه نحن من الماضي».
كانت الأغاني الوطنية العربية، في أوج المد التحرري الذي اجتاح الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، تردد «أيها الأجنبي اخرج من بلادنا!» ولكن هذه الأغنيات أضحت بلا معنى الآن. لأن الأجنبي أضحى ضرورة اقتصادية واستراتيجية بل وسياسية أيضاً، إنه مدعو، وبحرارة، إلى البقاء، والمشاركة، وحماية الأنظمة القائمة.
كما تقول (فاطمة المرنيسي): «الفيتنام الجديدة معكوسة الآن: كان المطلوب مقاومة الغزو الأميركي الآثم وتعبئة الجماهير للانخراط في صفوف المقاومة، والمطلوب اليوم هو إغراء الغزاة الأميركيين لفرض حمايتهم، ورشوة الجماهير كي تتعاون مع هذا الغزو وتسهل انتشاره وتغلغله وإذا اكتشفت الجماهير الخدعة الكبيرة، فإنها لا تجد ملاذاً إلا بالتمسك بالماضي. إنها تتزحلق على حبل مشدود إلى المقابل، هناك تسترد هويتها وكرامتها...».
والمأزق الثالث في تقدير (فاطمة المرنيسي) هو في تحديد المقصود بـ«النحن العربية». تكتب في إشراق: «ماذا يدور في خلد العربي حينما يبدأ حديثه بـ«نحن العرب المسلمين» انه لا يشير إلى اختيار شخصين ولا إلى تضامن اجتماعي، إنه اعتراف بانتماء قسري تعسفي، إنه بطاقة هوية، جواز سفر ممهور بخاتم رسمي، براءة ذمة من السلطان ولكي ينجو المواطن العربي من هذه «النحن» الرسمية المفروضة، يهرب إلى «نحن» أخرى، سردابية ظلامية لا علاقة لها بالعصر، وإشكالاته، إلى «نحن» مرممة، تعلو فوق ضغوط الحياة اليومية وتحدياتها.
يجري هذا الحوار في رواية لـ(مارشال ماكلوهان):
- مَنْ أنت؟
- أنا لا أعرف من أنا، لكنني كنت أعرف، على الأقل كيف كنت حينما استيقظت هذا الصباح، على أن هذا جزء من الماضي، لقد تغيرت أكثر من مرة، ولم أعد أعرف من أنا الآن».
هذا التغيير المتسارع المفزع هو الذي يسبب الدوار للإنسان العربي، هذه «الخيانة» المستمرة للذات تولد عنده الغثيان. إن العدوان الحديث، بالنسبة له، متمثل في الساعة، إنها تقزمه، تهمشه، وتجوفه. ومن هنا الحاجة إلى إيقاف عقاربها، وتثبيتها على تاريخ رمزي مقدس. وكما قال (الجابري) في كتابه «نحن والتراث»: «كلا، النفط لا يعطي للعرب الثروة، ولا القوة. وحده التحكم بسرعة الإنتاج والتسويق هو الذي ينقذ العرب من الإفلاس. لماذا المكابرة؟ الاستعمار الجديد هو طريقة في الحساب والقياس، وضبط الزمان! ما الفائدة من العودة إلى مقبرة التراث، والتلويح بعظام الأجداد، وأنت ملقى على قارعة الطريق؟.
-3-
الخائفون على «نظافة العقيدة»، والحريصون على «خيرات» السلطان مصابون بعصاب الساعة. إنهم ينظرون إلى عقاربها، بهلع وجزع، ويتمنون لو أنها تتجمد ولا تتحرك. كلاهما يسعيان، ولأغراض مختلفة، إلى تحويلنا إلى «حريم سياسي»، يتراشق الغثاثة في السراديب المحمية بالأسلاك الشائكة، ويطيع، وينصاع، وينتظر الفرج من أعلى، ولكن عقارب الساعة لابدّ من أن تتحرك، وباتجاه المستقبل بالتأكيد، وفي حركتها الخير كله، والبركة كلها.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد