غسان الرفاعي: الهوية الوطنية والإقصاء
ـ 1 ـ ترهقنا «الوجبات اليومية» من الأخبار المنتقاة التي تعجنها لنا مصانع التلفيق الإعلامي بالتوابل «المستوردة» وتقدمها لنا ملفوفة بـ«السيلوفان الملون» لا لإرواء العطش، ولا لإشباع الجوع، وإنما لتلويث المحاكمة الوطنية، وإشاعة مناخات الإحباط والاستسلام.
استجرتنا هذه الوجبات إلى «الحداثة الملغومة»، ثم إلى العولمة الاقتصادية، وهي اليوم تنبذنا باسم «الهوية الوطنية». أصبح المطلوب هو إثبات صفاء الهوية، وأصالة الجذور، تحت طائلة سقوط «المواطنة»، بعد أن كان المطلوب الهجانة الحضارية، والاندماج الاجتماعي، وإلا ثبتت تهمة «التخلف والبدائية».
ـ 2 ـ
المفارقة المذهلة أن «اريك بيسون»، الاشتراكي الأممي المتطرف الذي كان بوقاً يصم الآذان، في الحملة الانتخابية لـ»سيغولين رويال« مرشحة الحزب الاشتراكي للرئاسة، والذي كان يطالب بإحلال الهوية الأوروبية مكان الهوية الفرنسية، تحول، بين عشية وضحاها، إلى داعية مبتذل لـ»ساركوزي« الذي كافأه، بعد فوزه، وعينه وزيراً للهجرة والهوية الوطنية، فكان أول إنجاز فاخر به هو طرحه لمبادرتين عنصريتين: الأولى، الدعوة إلى إجراء حوار وطني حول مفهوم الهوية الوطنية ومناشدة السياسيين والمثقفين الفرنسيين بالإجابة عن السؤال التالي: »ما الذي يجعل الإنسان فرنسياً؟«، والثانية المطالبة بمنع ارتداء »البرقع« للمرأة، وإسقاط الجنسية عن أي رجل يطالب زوجته الفرنسية بارتداء البرقع، وكان واضحاً أن الهدف من المبادرتين هو استثناء المسلمين من حق المواطنة، وحرمانهم من المشاركة السياسية. طبعاً لم تستجب الجماهير الفرنسية للمبادرتين، ووقّع عدد كبير من السياسيين والمثقفين عريضة تطالب بإلغاء وزارة الهجرة والهوية الوطنية، وكان اللافت أن السيدة الأولى »كارلا« زوجة »ساركوزي« حرصت، في الإجابة عن سؤال طرحته عليها المذيعة »خديجة بن قنة« التي تضع الحجاب حول إمكانية أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً على غرار ما جرى في الولايات المتحدة حينما وصل ملون إلى البيت الأبيض، على أن تكون صريحة، إذ قالت: »هذا احتمال وارد، أنا إيطالية ولست فرنسية، ثم إن زوجي هنغاري الأصل، ومع ذلك أوصلنا الشعب الفرنسي إلى قمة الهرم الحاكم...« وقد أوعز قصر الاليزيه بعدم نشر أقوال »كارلا« لما قد تسببه من لغط.
ـ 3 ـ
أصدر صحفي إيطالي يدعى »اورنست ديل بوفو« رواية شيطانية، في مطلع حياته، أظهر كراهيته فيها لمدينة ميلانو، لأنها »تخلو من اللصوص والقتلة والفاسقين«، وهؤلاء -كما يجزم اورنست ـ هم الذين يحققون الازدهار والتقدم في المجتمع المعاصر، ولكن الصحفي الإيطالي، وبعد عشرين عاماً من اليأس والإخفاق، طلع علينا برواية جديدة: »لا شيء غير الحياة« يبشرنا فيها أن مدينة ميلانو قد دخلت الحداثة من الباب العريض، إذ أصبحت »منتجعاً للصوص والقتلة والفاسقين!«.
فكرتان تستأثران بإعجابي، في روايته الجديدة: الأولى، تصنيفه الناس على أساس رائحة النتانة، إذ يكتب: (حينما أعبر السوق الذي يوصلني إلى مكاتب صحيفة /استامبا/، أشم رائحة نسائه وكأنها رائحة باطن القدم، أو النفتلين، أو الوحل المستنقع، وأشم رائحة رجاله، وكأنها رائحة لحم متفسخ، أو كاوتشوك، أو زيت مغلي، ولكنني أعرف أن النبل الحقيقي يتصاعد من هذه النتانة. وحينما أجتمع بقادة المدينة، وهم يتوافدون على رئاسة التحرير، أشم رائحة الياسمين والليلك، والنسرين، ولكنني أعرف أن الخسة تتصاعد من هذا الأريج!).
والفكرة الثانية، اعترافه أنه لم يعد له إلا صديقان يثق بهما، الهاتف الذي يصله بالناس الذين يعرفهم، والكلب الذي يصله بالناس الذين لا يعرفهم. يكتب، وكأنه أصيب بنوبة من الصرع: (وجوه الناس من الأصدقاء والمعارف أقنعة تحجب حقيقتهم، فحذار من أن تغرز عينيك في أعينهم مجابهة، والكلمات التي تتدحرج من شفاههم أفخاخ لاصطيادك، فحذار من أن تتورط، لا تحادثهم إلا عبر الهاتف إذا كنت بحاجة إليهم..)، ثم يكتب: (خير العلاقات وليد المصادفة، وسريع الزوال، كلبي الصغير يؤمنها لي عن طريق التحرش البريء، وشم الرائحة، ما أوحش مدينة يتحكم فيها دليلان للخروج من مستنقع الوحدة: هاتف وأنف كلب)!.
ـ 4 ـ
هذا صحفي أخرق، يستجرنا إلى البغضاء والانعزال، وقد يكون من واجبنا أن نلصق على جبينه شعار (خطر على الأمن) وأن نرسم على خديه (جمجمة وعظمتين) للتحذير من الاقتراب منه، ولكن لا بد من اهداء مؤلفاته الكاملة إلى المثقفين الرجعيين الجدد في أوروبا الذين يتحدثون عن (رائحة التوابل) التي تتصاعد من أحياء المهاجرين العرب والأفارقة في باريس والعواصم الغربية الأخرى، والذين يحذرون من الأحزمة الناسفة التي ينصبها لهم (المتطرفون الشرقيون)! ألم يكتب أحد أبرز كتّابهم الجدد (هولبروك)، في روايته (المنصة): (تجنب الاقتراب من الأحياء التي تعبق برائحة التوابل مثل الكزبرة والكمون، لأنها دليل على وجودهم، اقفز من المترو حالاً إذا شممت رائحة التوابل، وخذ فوراً عربة أخرى).
ـ 5 ـ
حينما صدر العدد الجديد من مجلة (الأوغاد les imbeciles ) قررت أن أقتنيه، لا بدافع الفضول، وإنما لأنني بدأت أسأم من قراءة الصحف الرصينة (المتوازنة) وإذا كانت الديمقراطية حتى لو صبغت بأحمر شفاه أمريكي فاقع، هي البضاعة الفاخرة التي تتصدركل واجهات الدكاكين السياسية المعاصرة، فلماذا لا يسمح (للأوغاد) أن يعبروا عن وجهة نظرهم، وأن تكون لهم مجلة تنطق باسمهم. لقد دهشت بعد قراءة الافتتاحية التي وقعها رئيس التحرير (فريديرك باجاك)، والتي يقول فيها: (إن الأوغاد ليسوا أقلية مهمشة في المجتمع، وإنما جماعات كثيفة غير منظمة، ولو رشحوا واحداً منهم للانتخابات لكان من المرجح أن ينجح، وأن يشكّل جماعة مستقلة في مجلس النواب..).
الهاجس الذي يؤرق جفون الأوغاد هو اكتشافهم أن كل ما هو جميل ونبيل وطيب محصور في الماضي، وأن كل ما هو قبيح، غث، مرذول هو حديث ومعاصر، وإذا كان (التقديس) هو الموقف الذي ينبغي أن نتخذه حينما نقف أمام عظمة التاريخ، العابق بالأريج، فإن (التخريب) هو ما يغلي في داخلنا حينما نصدم ببشاعة المدن والضواحي، وما تفرزه من أوساخ وتلوث. يقول بطل رواية (فيليب هارول)، وهو من الروائيين الأوغاد الموهوبين: ( حينما أعود إلى بيتي الاسمنتي في الضاحية، المؤلف من غرفتين ضيقتين، وحمام مشؤوم، ومرحاض مقشر، أشعر برغبة في البكاء، أول ما يخطر على بالي هو أن أحمل فأساً حاداً وأحطم كل شيء بلذة ونشوة، وأن أصيح كالكانغارو: إلى الجحيم يا حضارة القرن الحادي والعشرين..).
زعيم أدب الأوغاد هو (ميشيل هولبروك) الذي لا يخفي رغبته، في روايته (كونوا أحياء) في تيئيس جيله وتجريده من إرادة التحرك، وخلف امتداح الغثاثة تكمن كراهيته للتحنيط والبرمجة. انه يصرخ في المثقفين: (عالجوا الموضوعات التي يخجل الكل من معالجتها، وأظهروا الوجه الآخر للديكور، تحدثوا عن المرضى، الاستباحة، الموت، عدم الاكتراث، الإحباط، جنازة الحب. أريدكم أن تكونوا أنذالاً، وإلا حكمت عليكم بالجبن، نعم، أريدكم أن تكونوا أنذالاً، فهذا يجعلكم مخلصين لإنسانيتكم...!).
وقد كان نذلاً في روايته الثانية (المنصة) الطافحة بالحقد والكراهية، والبذاءة، والتي يعلن فيها بكل وقاحة: (نعم، أتلذذ حينما أرى الأبرياء الفلسطينيين يقتلون بقسوة وفجور، وأتمنى لو ننجح في إبادتهم جميعاً. أليس هذا ما يدعونا إليه ساستنا الفخورون بحضارتهم وديمقراطيتهم؟ ألم يصبح العالم أجمل وأنظف لو اختفى هؤلاء البؤساء، بشهدائهم، وعويلهم، وتوابيتهم، ونحيب نسائهم، وبقايا منازلهم المهدمة ومزارعهم المحروقة؟).
كل واحد منّا معرض للتساؤل التالي: (ماذا أفعل أمام الاضطهاد والاستبداد؟ هل أقبل أن أتعرض للخطر، وأقامر بعملي، والمجازفة بحياتي لأنقذ ابرياء؟ أم إنني افضل الإذعان للخوف، وللضغوط وللتواطؤ، وهكذا أساعد على ارتكاب الجرائم؟ قد لا نملك القدرة على أن نكون أبطالاً، ولكننا أحياناً نشعر أننا مؤهلون لأن نكون جلادين!).
ومع ذلك، فقد تنجو بعض الأقلام من توابل التلفيق الإعلامي، وتسرب تحليلات لا تخلو من إقناع ومؤانسة. تحدث مقال نشر في (الهيرالد تريبيون) الدولية يوم الجمعة الماضي 12/2/2010 بقلم روجر كوهن عن (حقائق الشرق الأوسط القاسية) أبرز فيه البدهيات التالية في الصراع العربي ـ الاسرائيلي:
ھ ان السلوك الأميركي في الشرق الأوسط هو سلوك (المحامي المستبد) عن اسرائيل، لا سلوك الوسيط النزيه الذي يسعى إلى التسوية السلمية، لقد نشأ فراغ في فلسطين بعد تخلي الامبراطورية المنهارة بريطانيا، وترك الأمر للامبراطورية الصاعدة الولايات المتحدة، لكنها اساءت التصرف، ودفعت الأمور نحو الأسوأ.
ھ لم تتغير الأمور بعد وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض. لقد أحيا الآمال بعد خطابين في تركيا والقاهرة، ولكنه لم يف بوعوده، وترك للمراوغ الخبيث (نتنياهو) الحرية في أن يعبث بالدور الأميركي على هواه.
ھ بالغ الألمان النازيون في اضطهاد اليهود، وساعدوا على توريم اسطورة الهولوكست، وتفاقم الأزمة الأخلاقية عند بعض السياسيين في الغرب، ولكن الهولوكست، الذي استخدمته الصهيونية بشكل داعر، لا يبرر اضطهاد شعب نبيل آخر، الشعب الفلسطيني. إن وعد الولايات المتحدة بأن تقف إلى جانب اسرائيل لا يعطيها (شيكا على بياض) للإساءة للمصالح الأميركية في المنطقة.
ھ تزعم الدبلوماسية الأميركية أن هدفها الأولي هو إقامة دولتين: إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب، بسلام، ولكن الوطن الفلسطيني المزعوم يختفي متراً بعد متر، ويوماً بعد يوم، هل بمقدور علبة سردين محاصرة ومجففة (غزة) ومساحات مكتظة بالحواجز والجدران العازلة ومراكز التفتيش (الضفة الغربية) أن تكون نواة دولة مستقلة، إنها، في أحسن الأحوال، هيكل كاريكاتوري يثير السخرية اقليمياً ودولياً.
ھ وأخيراً قد يكون من المقبول أن تتعهد الولايات المتحدة بحماية إسرائيل، ولكن ليس من المعقول إطلاقاً أن تؤيد الولايات المتحدة سياسات اسرائيل التي تتعارض مع الأهداف الاستراتيجية الاقليمية للولايات المتحدة.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد