غسان الرفاعي: عدوان البراغيث الالكترونية

17-02-2008

غسان الرفاعي: عدوان البراغيث الالكترونية

ـ 1 ـ كم أثارتنا أسطورة «طاقية الإخفاء» في مستهل حياتنا، وكم تمنينا أن نحصل عليها، بطريقة ما، لنشبع تطلعنا للطغيان والجبروت، وقد لا تشوه نقاوة صورتنا إذا ما اعترفنا بأننا كنا نتوق إلى التنكيل بمن يضطهدنا ويقسو علينا، وإلى السخرية بمن يبالغ في إظهار تفوقه وقدرته على البطش بنا.

وقد بادر عدد من الروائيين والسينمائيين إلى إشباع رغبتنا في «الاختفاء» فأمتعونا بمشاهد ساحرة عن تحركات «المحظوظ» الذي اعتمر طاقية الإخفاء، وتفنن في الانتقام من أعدائه المزعومين، ويبدو أن التكنولوجيا المعلوماتية الحديثة قد نجحت في تصنيع «طواقي إخفاء» متطورة وبثها، في كل مكان، تراقبنا، وتتجسس علينا، وتفضح حركاتنا. ‏

يقول فريديريك بيوكان في كتابه المثير «ابتسم، أنت مراقب حتى لو اختبأت في صندوق قمامة»، إن آلات الكمبيوتر التي نفاخر بها مخترقة، وتعاملنا كمشبوهين منحرفين، وهواتفنا المحمولة أجهزة وشاية الكترونية متحركة، وسياراتنا محشوة بأقراص صغيرة تسمح بتحديد مواقعنا، وأنفاق المترو، والشوارع تحولت إلى استوديوهات سينمائية نشاهد فيها من صافح من، ومن عانق من، ومن مد يده في حقيبة من...». ‏

‏ ـ 2 ـ ‏

وتروي صحيفة «الإندبندنت» البريطانية الطرفة التالية: «يمنع، في قرية ميدل براد الارستقراطية رمي المحارم الورقية في الشارع، وإذا حدث، ورمى أحدهم محرمته، فإنه سيفاجأ بصوت من مكبر غير مرئي يصرخ فيه: «أنت، من ترتدي المعطف الرمادي، وتعتمر قبعة سوداء، نرجوك أن تلتقط الورقة التي رميتها، وأن تضعها في سلة المهملات إلى جانبك!»، وقد يخطر على بالك أن تتمرد، وأن تتمتم بينك وبين نفسك: «أنا إنسان حر ولست رقماً!»، وحينئذ سترش بالماء البارد من حيث لا تدري، وستسمع من مكبرات الصوت: «طظ!». ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

الأمر لا يحتمل المزاح ولا السخرية، إن البراغيث الالكترونية ـ هكذا تسمى الأقراص المعدنية الصغيرة التي لا يتجاوز حجمها ميليمتراً مربعاً واحداً، وقد لا تكون أكبر من حبة الأرز ـ مبثوثة في كل مكان، ويمكن لأجهزة المراقبة المركزية في الولايات المتحدة أن تستخدمها في مراقبة كل الشخصيات «المشبوهة» أو المشكوك في أمرها. ‏

من يقرأ التحقيق الذي أعده خبراء «التلصص الالكتروني» في أسبوعية «ماريان» الفرنسية، الأسبوع المنصرم، سيصاب بالذهول حين يكتشف أن مفاتيح الشقق التي نسكنها محشوة بعدد من هذه البراغيث، وأنها تنقل إلى أجهزة الأمن كل ما يجري داخل الشقق، وهذا ينطبق أيضاً على المصاعد، وإطارات السيارات، وساعات اليد، والأحذية الجلدية، وأقلام الحبر، ولعل أكثر ما يصدم في هذا التحقيق هو الإقرار بأن «الآذان الطويلة للإدارة الأميركية قادرة على التقاط الرسائل الالكترونية، والمحادثات التلفونية، والنقاشات داخل الغرف المغلقة لمديري الشركات الكبرى، ورجال السياسة، والأمن في كل مكان». ‏

وهذه البراغيث الالكترونية متسلطة، تتدخل في الشؤون الداخلية، ويمكن أن تكون في خدمة «أي كان ضد أي كان»: في خدمة الزوج لمراقبة زوجته، وفي خدمة شركات ضد شركات منافسة، وفي خدمة جهاز أمني ضد جهاز أمني آخر، وفي خدمة حزب أو جماعة ضد حزب أو جماعة أخرى. ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

أنت تعلم أن البراغيث الالكترونية مبثوثة في كل مكان، وأن الجرائم التي تقترف ضد إنسانك العربي هي من صنع هذه البراغيث وقد تحاول أن تحافظ على رباطة جأشك، وأن تتمسك باتزانك، وأن تحتكم إلى المنطق، وأن تناقش الاحتمالات الساخنة والباردة، وأن تستعرض موازين القوى الإقليمية والدولية، وأن تعلن بأن ما يجري ضرب من الجنون، وأنه لا بد من نهاية سريعة، وان الإنسانية المتحضرة لا يمكن أن تقبل بهذه المجازر المروعة، ولا بهذه الخسة «غير المتكافئة»، ثم فجأة ينقلب كل شيء رأساً على عقب ويتمزق الاتزان، وتتناثر الحكمة، وتلتهب الهيستيريا في الخلايا، ويغلي «الغضب الساطع» في النسج، وترفع قبضتك وتصرخ «سنقضي عليهم، الأوغاد، أولاد الزنا» ولا يهمك أن ترش بالماء البارد، ولا أن تسمع من مكبرات الصوت: «طظ!». ‏

تتسمر أمام شاشات التلفزيون، تنقل أنظارك من فضائية وطنية إلى أخرى إقليمية، إلى أخرى دولية، وتتساقط جثث الأطفال على رأسك، ويغوص الدمار المنتشر في كل مكان في صدرك، وتدميك ابتسامات زعماء العالم وهم يتداولون، ويكذبون، ويشتمون، وتتولد عندك الرغبة في رجمهم بالحجارة، وتنطق من حنجرتك الشتيمة: «أبناء الزنا، إنهم يسخرون منا!». ‏

ما يؤلمك ليس الطغيان، ولا الخسة، ولا العربدة، وإنما العجز، بمختلف أنواعه، العجز المعلن، والعجز المستتر، والعجز المبرقع، والعجز المنافق، ما يهم بعد ذلك، إذا كانت البراغيث الالكترونية تسجل، وتصنف، وترفع تقاريرها إلى المسؤولين المحليين والإقليميين أو الدوليين. ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

قد لا يكون «بلافروج زيزيك» مؤلف كتاب «الحاوي والقزم» موفقاً في إجراء مقارنة بين الرئيس بوش ودوريان غراي بطل رواية «أوسكار وايلد» الشهيرة، ولكنه كان صائباً حين تنبأ بأن يكون مصير الرئيس بوش أكثر بشاعة من مصير دوريان غراي، إن الإمبراطورية التي أقامها بالاعتماد على البراغيث الالكترونية وعلى طائرات الأباتشي ستنهار، أولاً لأن البراغيث لا تقدم له دوماً تقارير صادقة، وثانياً لأن طائراته لن تحول دون أن تستعيد الشعوب حريتها وكرامتها. ‏

كان بطل الكاتب البريطاني شاباً في غاية الوسامة، وقد تبين له أنه يزداد وسامة كلما تقدم في السن، وأنه لم يكن يشيخ، وفي حين كان أصدقاؤه وزملاؤه يهرمون، وتظهر على قسماتهم التجاعيد والبثور، كان هو يتألق جمالاً ونضارة. ‏

وفي ذات يوم عرض عليه أحد الفنانين الكبار أن يرسم له لوحة تخلد وسامته، وقد قبل العرض بغطرسة، وتفاخر، وحينما أنجز الفنان لوحته، أهداها إلى دوريان غراي، ولكنه حذره: «إن اللوحة قد رسمت بألوان سحرية خاصة، بحيث تعكس تطوره وشيخوخته الروحية». ‏

واستمر الشاب يحيا حياته الصاخبة الماجنة، وهو يستثمر نضارته بقسوة وفجور، ولم يتورع عن ارتكاب أفحش الموبقات، فخوراً بما يفجره لدى الآخرين من حسد وشعور بالعجز. ‏

وخطر على بال دوريان غراي في ليلة ماطرة أن يتفقد لوحته التي خبأها في غرفة صغيرة فوق المصعد، يحتفظ فيها بأوراقه ومقتنياته الثمينة، وما كاد يدخل الغرفة ويرفع ناظريه إلى اللوحة المعلقة على الجدار حتى جحظت عيناه من الرعب، إذ رأى على الجدار لوحة شيخ هرم دميم، تملأ البثور والدمامل الخضراء والصفراء وجهه، ولم يتمالك أمره، وأخرج خنجراً من جيبه، وانهال على اللوحة تمزيقاً وتجريحاً، وهو يصرخ كالمجانين: «إلى الجحيم، أيها العجوز الدميم!». ‏

وفي صباح اليوم التالي صعد الخادم إلى الغرفة الصغيرة لينظفها كالمعتاد، وكم كانت دهشته كبيرة حينما وجد جثة رجل هرم دميم، تملأ البثور والدمامل وجهه على الأرض، وكانت هناك على الجدار لوحة أنيقة تمثل شاباً وسيماً يبتسم في خبث وشماتة. ‏

ويكتب «زيزيك»: «لقد رسم الشعب الأميركي للرئيس بوش صورة ساحرة حين انتخب للرئاسة، وها قد انتهت الولاية الأولى، وتكاد الولاية الثانية أن تنتهي أيضاً، ولكن صورة بوش قد شاخت واتسخت، بفعل الجرائم التي ارتكبها، لا ضد تاريخ شعبه فحسب، وإنما ضد الإنسانية على امتداد الكرة الأرضية، وفي حين حافظ الشعب الأميركي على وسامته ونضارته، لم يجرؤ بوش على الصعود إلى الغرفة الصغيرة، لأنه كان يعرف بأنه سيشاهد دمامته الروحية محفورة على وجهه، وهذا ما دفع الجماهير إلى التدفق إلى الغرفة وتمزيق الصورة، ورمي شظاياها من النافذة. ‏

ـ 6 ـ ‏

أتساءل، في شماتة، هل ستقوم البراغيث الالكترونية بتصوير مشهد الرئيس بوش وهو يتردد قبل الصعود إلى الغرفة الصغيرة، خوفاً من رؤية دمامته الروحية محفورة على وجهه؟. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...