غسان الرفاعي: هل عادت القرون الوسطى؟
-1- كان يخيل للجميع أن بداية هذا القرن وقد تلامحت بداياته ستحقق التقدم والاستقرار: التقدم، لأن التاريخ بدأ يتوجه نحو الطريق القويم،.
والاستقرار لأن العالم قد توصل إلى التوازن الذهبي، بعد أن أنهى الاستقطابات والتوترات، ولكن جميع الدلائل تشير إلى أن بداية هذا القرن تتجه نحو ظلامية جاهلة جديدة، سماها الكاتب الفرنسي (آلان مينك) القرن الأوسط الجديد، فهناك عودة إلى سيادة القوة السافرة على حساب الشرعية والقانون الدولي، وبروز جماعات متعطشة للاضطراب، وبنى اجتماعية رجراجة غير مستقرة، وتفش للفوضى والخلل في كل مكان، واطلاق العنان للطموحات الفردية والاجتماعية الخبيثة والمكبوتة.
وهذه الجاهلية الجديدة لم تأخذ أبعادها بسبب تقوض الأنظمة الشيوعية فحسب، وإنما لأن كل الأنظمة الأخرى قد شاخت وترهلت، ولم تعد قادرة على استيعاب التطورات المتلاحقة ان الاضطراب العالمي الذي يطفو على السطح اليوم أفدح بكثير من الاضطراب الذي أعقب تداعي الامبراطورية الرومانية، وتفتت الامبراطورية العثمانية وهزيمة العسكرية الألمانية ومرحلة ما بعد الشيوعية لا تتجلى في انتصار اقتصاد السوق، ولا في يقظة القوميات المسحوقة، ولا في الهيمنة الأمريكية، وإنما في انعدام الوزن، وغياب العمود الفقري، وتبعثر المراكز الطاغطة وتشرذمها.
-2-
أصدر الكاتب الأمريكي ذو الأصل الياباني (فرانسيس فوكوياما) كتاباً خطيراً سماه «نهاية التاريخ والانسان الأخير» أراد له أن يكون بياناً مرشحاً للفراغ الأيديولوجي في العالم، بعد أن سحبت الأيديولوجيات من التداول، ورسا المزاد العالمي على الليبرالية كنظام بديل وحيد وقد جاءت لحظة نشر الكتاب مقترنة بحدثين كبيرين، هما تفكك المنظومة الشيوعية، وضرب القوة الاستراتيجية العربية، كما لو أنه لم يكن بالمستطاع تدشين نهاية التاريخ إلا عبر المنعطف المزدوج «نهاية التاريخ» هو تقسيم جديد يفصل بين التنمية الغربية الصاعدة المتجاوزة للتاريخ، وبين العالم الآخر كله المسجون في التاريخ، ثنائية متغطرسة بين الشعوب الميؤوس منها، والشعوب المتنعمة بكمال التاريخ وسخائه.
والمفارقة المخجلة أن الموعودين بجنة «نهاية التاريخ» هم البيض الشقر الذين يؤلفون مجتمع النمور المنتصرة، في حين أن كل الآخرين هم من سكان الجحيم التاريخي، المحكومين بالقهر والفقر والموت.
وكان علينا أن ننتظر كتاب «القرن الأوسط الجديد» لـ «آلان مينك» لكي نخرج من الجحيم الذي وضعنا فيه منظر الليبرالية الأمريكية المتوحشة، ولنتأكد بأن التاريخ لا يقترب من نهايته وإنما يعود القهقرى إلى قرونه الوسطى.
-3-
القرون الوسطى الجديدة، في تقدير (آلان مينك) هي: غياب الأنظمة المستقرة، اختفاء المراكز الضاغطة، بروز ثقافات زئبقية مؤقتة ومشوشة، تكاثر المراكز الرمادية التي لا تخضع لأية سلطة حقيقية.
القرون الوسطى الجديدة هي العودة إلى الفوضى والاضطراب كروتين يومي، والتمسك بالعصبيات الضيقة كمنهج سياسي، ولها سمات واضحة:
أولها: اختراق الحدود، لم تعد الدول صغيرها وكبيرها، آمنة ضمن حدودها المعترف بها دولياً وشرعياً، من أكثر الدول هشاشة في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى إلى دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة ذاتها، وكل الاحتمالات، من تفتت وتشرذم دوماً وباستمرار يقول (مينك): كل المعاهدات التي تضمن الحدود ومناطق النفوذ، من معاهدة فرساي إلى اتفاقيات يالطا، أصبحت لاغية، وسيف التقسيم مسلط على رؤوس الجميع وقد لا يكون بمقدور أية دولة، مهما كانت قوية ومتماسكة، أن تنجو من التفتت والتجزئة.
وثانيها: البنى المتحركة، لا توجد بنية اجتماعية مهما كانت عريقة وصلبة، بمنجى من التمييع والحركة، وكل ما يقال من ثبات هذا المجتمع أو ذاك نوع من التمني الافتراضي، ولا يعكس الواقع المعيش يكتب (مينك): كل القادة يفاخرون بانتمائهم إلى قومية موحدة متجانسة، وكم من حروب اندلعت بسبب هذا الانتماء القومي، غير أن القرن الوسيط الجديد قد فسخ هذا الانتماء، وأضحى الفرد يفاخر بالانتماء إلى القبيلة والطائفة وحتى العائلة.
وثالثها: افلاس الاحزاب، كل الثورات التي شهدها التاريخ القديم والحديث كانت تستهدف الإطاحة بالنظام القائم، واستبداله بنظام آخر، مع المحافظة على وحدة البلد الجغرافية، غير أن الثورات المعاصرة، بعد زوال البلشفية، لا تناصب العداء للنظم الحاكمة، وإنما تستهدف الوحدة الجغرافية للبلد.
الثوريون الجدد يحملون السلاح لسلخ مناطقهم عن الحكم المركزي، ولم يعد يكفيهم اسقاط الحكم ديكتاتورياً كان أم ديمقراطياً.
ورابعها: السيادة للجماهير الغفل، كانت الثورات تعتمد على حزب طليعي منظم أو أقلية عسكرية متجانسة، ولكن ثورات اليوم تفجرها الجماهير الغفل غير المنظمة، كانت الأحزاب الثورية انقلابية سرية، برامجها مطروحة علناً، وطرق التعبئة التي تعتمد عليها مكشوفة، غير أن الثورات المعاصرة تتفجر عفوياً، وليس لها برامج، وإنما هي تعبير عن تعصبات وخرافات ومعتقدات هي أقرب إلى «الضمير الجمعي» المكبوت المحمي باللاشعور لا بالإرادة.
-4-
كتب (سيرج جولي) رئيس تحرير /الليبراسيون/ سابقاً، والمثقف والمتقاعد حالياً: انقلبت المآسي السياسية، في عصرنا العجيب إلى تراجيديا شكسبيرية: ابن يطرد أباه، وصهر يتآمر على عمه، وتابع يسرق ولي نعمته، ومع ذلك فالنظام العالمي الجديد يدخل اللعبة من الباب العريض.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد