غسان رفاعي: المثالية الساذجة والجريمة السياسية
-1 ـ قد يحتاج جيلنا المقهور، وهو يواجه قوى الظلام والشر، الى استراحة قصيرة، لا ليعيد النظر في مواقفه، فهذه محسومة، ولا مجال للمساومة عليها، ولا لرسم خريطة جديدة، تحدد مواقع الصديق والعدو، فهذه مفروغ منها، لا يفيد في شيء اخضاعها لعملية فرز متأنية، وإنما المطلوب هو تجميع قوانا وجرد مخزوننا، بهدف متابعة المقاومة.
بعد أن بدأ فكر المكابرة والغطرسة يتمخطر في عواصم العالم، بما يحمله من عنصرية وشراسة وجنون، أصبحت المعاندة الحقيقية هي بين الحلم والجرح: الحلم بالمحافظة على الوطن العربي، موحداً، حراً، كريماً، وبالمواطن العربي، مرفوع الرأس، موفور العافية، يتمتع بكل حقوقه الإنسانية والديمقراطية المشروعة، والجرح المتمثل بتفتيت الوطن العربي، أرضاً وثروات، وبإخضاع الإنسان العربي للذل والقهر والاستبداد. وإن كان النصر للجرح حتى الآن، فإن الحلم مازال في أهداب العيون وشغاف القلب. وقد يكون الموقف الشريف الوحيد لجيلنا ـ وهو الذي بدأ بالحلم وانتهى بالجرح ـ أن يرفض رمي السلاح وأن يستهجن الهزيمة.
لا بد من الاعتراف بأن رفض المساومة، والاستمرار في المقاومة، موقف صعب، محفوف بالمخاطر، منذ البداية، خصوصاً بعد أن ضاقت ساحة التحرك المستقل الحر، واحتكرت إهرامات الكلمة المسموعة والمرئية والمكتوبة، وسائل الاتصالات، وفرضت على الفضاء السياسي والثقافي والاقتصادي وصاية لا مثيل لها حتى الآن، ولكن لا بد من التسلح بالحكمة الوطنية والشجاعة الأخلاقية.
ـ 2 ـ
يستمر ايديولوجيو «التعالي الحضاري» في تصدير «سلعهم الثقافية» وإغراق أجهزة الإعلام الموالية بالنظريات المستحدثة لتسويغ فشلهم في اقناع المجتمع الدولي برجاحة موقفهم، وتفسير التصاعد الفلكي في كراهية الولايات المتحدة في العالم كله، وقد نزل الى «بورصة البهلونيات الفكرية» وافد مخضرم اسمه (دافيد برونكز)، لا يخلو من خفة دم ومن وقاحة فجة. زعم ان ما أفقد الولايات المتحدة سمعتها ومكانتها هو «مثاليتها الساذجة» أو على الأصح طفولتها العقائدية، لا جشعها أو طغيان صلفها العسكري.
يتحدث هذا المتحذلق عن أميركيين كبار، من أمثال (فرانكلين روزفلت)، كانوا على قناعة بأن الولايات المتحدة قادرة على تحرير العالم من الاستبداد الفاشي والموت المجاني ولكنهم تستروا، لأسباب وطنية نبيلة، على البشاعات التي كان يرتكبها الجنود الأميركيون في كل مكان.
وفي قناعة (برونكز) أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تهزم أعداءها الشرعيين دون أن تكون قوية، ولكن لا يمكن أن تكون قوية دون أن تفقد طهارتها وعذريتها، هكذا كان لا بد من ممارسة الاتساخ الأخلاقي. انه ينتحب ويندب حظ بلاده العاثر ويكتب: «على الولايات المتحدة أن تخسر في العراق اذا كان عليها أن تربح» وهذا معناه انه يتعين على كل العراقيين الطيبين المؤمنين بالديمقراطية أن يصوبوا بنادقهم ضد الولايات المتحدة، وأن يتمادوا في كراهيتها، والمطلوب من الولايات المتحدة أن تساعدهم على تحقيق الانتصار عليها .
ـ 3 ـ
على أن السلع الثقافية التي يوزعها «المتعالون الحضاريون» على سوبرماركات الإعلام الموالي لا تقتصر على الإيحاء بأن الولايات المتحدة مصابة بداء «المثالية الساذجة»، وان عليها ان تساعد أعداءها على الانتصار عليها اذا شاءت ان تنقذ سمعتها، وأن تستعيد مصداقيتها، بل ان الناشطين من كتاب العجرفة الأميركية نصّبوا أنفسهم «مصلحين اجتماعيين» بالمجان، وأخذوا يوزعون النصائح الثمينة للعرب، بهدف تصويب اعوجاجهم، وتحريرهم من التخلف. ولعل (توماس فريدمان) الذي تفتح له بعض الصحف العربية صفحاتها لنشر درره في «الحكمة وتصوير الأخطاء» هو أفضل نموذج للصلف الأميركي تحت غطاء النزاهة وحسن النية. يقول في مقال نشرته «الهيرالدتريبيون» ونقلته «الشرق الأوسط»: «لماذا ينجح اليابانيون في صنع الإنسان الآلي، وتحويله الى إنسان حقيقي يقدم خدمات معقدة؟ في حين لا ينجح العرب إلا بتحويل الاستشهاديين المسلمين الى أجهزة آلية تدمر وتقتل».
ويتبرع «فريدمان» في تفسير هذه الظاهرة، مشيراً الى ان العرب «يرفضون النظر في داخلهم» لاستكناه أسباب عجزهم وتخلفهم، وعوضاً عن استيراد المعارف والتقنيات الحديثة التي يمكن ان يحصلوا عليها بكل سهولة، بالمال الوفير الذي يتكدس في المصارف الأجنبية، يفضلون، في معظم الأحيان «العزلة الحضارية» والتمسك بما يسمى «الثوابت الحضارية» ويحملون الآخرين ما هم فيه من تخلف وركود، بل انهم يحملون الصراع العربي ـ الاسرائيلي، أو الاستعمار الغربي، مسؤولية التخلف وتأخر إجراء الاصلاحات الضرورية اللازمة متوهمين ان انتصارات كاذبة كالتي يكثر الحديث عنها في العراق وغزة من تفجير وقتل كافية لاستعادة الكرامة والانتصار على الأعداء.
ويتوجه «فريدمان» الى العرب ويخاطبهم بترفع وغطرسة: «أيها العرب لا تخدعوا أنفسكم، ولا تكثروا من الحديث عن المؤامرات الصهيونية التي تحول بينكم وبين الانتصار والتقدم والازدهار. لقد آن الأوان لكي ينضج العالم العربي، بحيث يتوقف عن الرقص في الشوارع كلما احترقت سيارة جيب في العراق، أو يسقط أحد جنود الاحتلال قتيلاً. إن مثل هذه الأعمال لا تحقق النصر للعرب ولا للإسلام. لقد آن الأوان لمعرفة الفرق بين السراب والحقيقة. نعم، يجب علينا، نحن الأميركيين، أن ننظر في المرآة، وأن نتساءل: لماذا أصبحنا مكروهين الى هذه الدرجة، ولكن يجب على العرب أن ينظروا في المرآة أيضاً، انهم يستفيدون من أخطائنا لتجنب إحداث التغييرات المنشودة، وللتهرب من الاصلاح والحداثة».
ـ 4 ـ
إن تكاثر «المنابر الهجينة» التي تطالب العرب بإجراء هذا الاصلاح أو ذاك، تحت ستار التعاطف مع قضيتهم أو الحرص على استقرارهم مدعاة للتشكيك والريبة، وخاصة اذا ارتبطت هذه المنابر بمشروعات الشرق الأوسط الجديد أو الاتحاد من أجل المتوسط. هناك رغبة أكيدة في التغيير والتطوير والتحديث، عبّر عنها المثقفون العرب، في صيغ مختلفة، ولكن ما يطالب به هؤلاء مختلف شكلاً ومضموناً عن دعوات «المنابر الخبيثة» الملتبسة والمشبوهة، ويقيناً ان التطور والتحديث سيحصل لا محالة، ولكنه سيكون تكملة «للنهضة» التي تلامحت في مجتمعنا منذ نهاية القرن الماضي، ومستوحاة من تاريخنا، وحضارتنا، وخصوصيتنا.
ـ 5 ـ
كنت أحد أعضاء اللجنة التي عهد اليها بالإشراف على «إعلام الحرب» قبل، وأثناء، وبعد حرب تشرين، تحت إشراف «جورج صدقني» وزير الإعلام، وقد أتيح لي أن أقابل الأسرى الاسرائيليين الذين احتجزناهم أثناء المعارك، بطلب من رئيس الأركان اللواء يوسف شكور، ومازلت أذكر ما قاله أحد الأسرى وهو أستاذ جامعي اسرائيلي يؤدي خدمة العلم في جبل الشيخ:
«قد نستمر في النقاش الصاخب أياماً وأسابيع، ولكن لن نتوصل الى اتفاق، إذ لا فائدة من تحديد معاني الحق والعدالة والشرعية. نحن نزعم انها معنا، وأنتم تزعمون انها معكم. السؤال الأساسي هو: هل سينتهي هذا الصراع؟ وكيف؟ لا يوجد إلا حلاّن لا ثالث لهما: إما أن يستغرب العرب ويصبحوا امتداداً للقوى التي يحاربونها ولو فقدوا هويتهم، وإما ان يتمشرق الاسرائيليون، ويصبحوا جزءاً من المنطقة التي يعيشون فيها، استغراب العرب أمر شبه مستحيل لأن وراءهم حضارة غنية وتاريخاً مزدهراً وأرضاً لا حدود لها، وإمكانات واعدة، إذاً لم يعد هناك إلا الحل الآخر أي أن يتمشرق الاسرائيليون، وهذا متاح، ولاسيما ان قسماً كبيراً منهم متشربون بالحضارة الشرقية، ولكن المفارقة الخطيرة هي ان الاسرائيليين اذا ما تمشرقوا زالت دولتهم، وهذا ممنوع. ومن هنا لا بد من أن تبقى اسرائيل جسماً غريباً، وكلما لاحت فرصة للتأقلم والسلام قام أباطرة الصهيونية بإجهاضها، هذه حلقة مفرغة، ولكن هذا هو الواقع، ونحن حريصون على ان نبقى جسماً غريباً في المنطقة».
ـ 6 ـ
وقد تولد عندي اليقين بأن معركة السلام الحالية مزورة، لأن اسرائيل، سواء حكمها حزب العمل أو حزب الليكود، أو أنصار السلام الآن أو الأحزاب الدينية المتطرفة، حريصة على ان تبقى جسماً غريباً، فهذا هو أمنها الحقيقي، وكلما اقتربت المنطقة من سراب السلام قام مجنون ما في مكان ما، وارتكب مجزرة رهيبة، ليؤكد للعالم أجمع ان اسرائيل هي جسم غريب ـ لا مصادفة، ولا عن سوء تفاهم ـ وإنما عن سابق تصور وتصميم.
وتولد عندي اليقين أيضاً بأن المطلوب، في الماضي والحاضر، هو سلخ الهوية العربية وتفتت التاريخ العربي، وقلب الأنظمة العربية الى دكاكين محاصرة، مسكونة بهاجس السلامة والأمن، ومغزوة بالتسول على أبواب النظام العالمي الجديد، وليس لها من مطمح إلا الدخول في دهاليز الاستغراب والحصول على «صكوك براءة».
الحاخام اليهودي الذي أبّن جزار الحرم الابراهيمي قال في حقد: «مليون عربي لا يساوي ظفر يهودي!» وأتساءل: ما الفرق بين التخلي عن التاريخ قبل الجغرافيا. أو الجغرافيا قبل التاريخ؟ ما الفرق اذا دفعنا الثمن حالاً، واذا دفعناه مؤجلاً وعلى أقساط؟ ما الفرق اذا تم الدفع في أوسلو أو كامب ديفيد، أوفي أنابوليس، أو في غرفة في وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن؟
ـ 7 ـ
أكاد أعتقد ان هذه الأفخاخ منصوبة لنا في كل مكان، وان حسن النية قد لا يكون متوافراً عند من يدعون صداقتنا، والإعجاب بشرقيتنا، ولكن الحكمة ليست في الشكوى من وجود هذه الأفخاخ، ولا في الكشف عن خبث من نصبوها، وإنما في تجنبها، وعدم الوقوع فيها، وفي تحويل هذه الأفخاخ الى منابر حقيقية، تنشر على الملأ ما نملكه من رصيد ثقافي رصين ودسم.
غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد