غسان رفاعي يستعيد أصدقاءه من العالم الآخر

16-09-2007

غسان رفاعي يستعيد أصدقاءه من العالم الآخر

ـ 1 ـ اجتمعنا أول البارحة في مقهى «اللوتيسيا» في ساحة شارل ميشيل لإحياء ذكرى الصديق والأديب الكبير عبد الرحمن منيف، الذي اختطف من فضائنا، كالتماعة البرق، تاركاً لنا، وفي ظروف مختومة، يأساً دفيناً، وبراعم حلم لم تتفتح، وذكريات مخضبة بالدم، وهشيم آمال، هكذا شاء ـ كأحد أبطاله في «مدن الملح» ـ أن يصفعنا برحيله، ليمتحن قدراتنا على المقاومة، أليس تاريخنا الحديث ـ كما كتب ـ «لسع أسواط وقرقعة كرابيج ووخز دبابيس؟» فطوبى لمن يقضي قبل أوانه، لأنه «يحرم نفسه من طوفان الدموع وبحيرات الدم، ولا نهائية الخرائب، وعجين الدنس».

طالبني الأصدقاء ـ وهم اضمومة من الكتاب العرب من مختلف الملل والنحل ـ بأن أتحدث عن «ناسك شرقي المتوسط» حينما كان مقيماً في باريس، مستغرقاً بصياغة روايته الفذة «مدن الملح» فلم أجد مفراً من التذكير بما كتبته عنه، بعد رحيله. ‏

‏ ـ 2 ـ ‏

شكلنا، في منتصف الثمانينيات، وفي باريس بالتحديد، رباعياً مخملي الملمس، يتستر على عواصف ثلجية من الداخل: عبد الرحمن منيف البدوي الأصيل الذي يخرمش مظاهر الحداثة، «وجورج طرابيشي التائه المبرقع الذي اكتشف مناعة التراث» والباهي محمد المستغرب البتار الذي يرفض ترسبات التخلف» وأنا سائح ثقافي مهووس بإغناء حديقته بكل الورود والأزاهير، كنا نجتمع، دورياً، وبلا موعد، في المقاهي المشرورة في سان جرمان دوبريه أو السان ميشيل، أو في منازلنا المتباعدة، أو في قاعات الندوات والمحاضرات، وكنا نتبادل الآراء حيناً، واللكمات أحياناً، ونتراشق عبارات المجاملة تارة والعتاب القارص تارات، وكان يجمعنا ود بريء أصيل، وتفرقنا مواقف ثقافية، نتعصب لها في البدء، ثم نتغاضى عنها في نهاية المطاف، وكنا حريصين على استعراض ما يطرأ علينا من رضوض ثقافية، وعلى بعثرة ما يترسب فينا من «أصوليات خبيئة» في اللاشعور الفردي أو الجمعي، ولعل أجمل وصف لعلاقتنا ما قاله عبد الرحمن منيف «العميد»: «لا نكتشف أننا أصدقاء ودودون إلا حين نتلاطم، ونتضارب!» كان كل واحد منا يحمل فرادته ولكنه لم يكن ليشعر بأهميته إلا حين يصطدم بفرادة الآخرين. ‏

كان عبد الرحمن منيف مسكوناً «بمدن الملح» التي لم تكتمل فصولاً بعد، غائصاً حتى أذنيه في الرمال الصحراوية، وفي مكونات البداوة التي لم يلوثها النفط بعد، ولم يكن ليكترث بكل الزخم الذي توفره عاصمة كباريس، ولا بكل الأطعمة التي كانت تفرزها حوانيتها الثقافية، كان يقول، وكأنه يناجي نفسه: «لا أرى، وأنا أتجول في شوارع وأزقة باريس، إلا البدو الذين يفاخرون بأصولهم! أليس من المستغرب أن يخطر لي أن أكتب عن مدن الملح وأنا في باريس أعيش تجربة الإنسان الالكتروني؟». ‏

ولم يكن الباهي محمد، هذا المغربي الذي هاجر إلى باريس لأنه لم يعد يحتمل «الحماقة والجهل والجنون» في بلاده، كان يقول لنا في لا مبالاة مذهلة: «لقد تم إفسادي مئة بالمئة، ولم يعد الدم الذي يجري في عروقي نقياً شرقياً، إنه دم غربي ملوث، يخجلني أن أعترف بأن عملية التجميل القيصرية التي أجريتها قد نجحت بشكل غير منتظر، لقد تحررت من الفكر الخرافي، التراثي، من الجنون العربي، صدقوني لا أمل لنا إلا في عمليات التجميل! «ولكن «الباهي» ارتحل ذات يوم إلى وطنه «لتسوية أمور شخصية»، ولم يعد: فتكت به أزمة قلبية قاتلة، وهو في المطار، وقضى قبل أوانه، وقد أعترف بأنني قد أفشل في تصوير الفراغ الذي تركه في مجموعتنا الرباعية، ولكن عبد الرحمن منيف أفرد له كتاباً كاملاً، تحدث فيه عن هذا «الفوضوي الساحر الذي يختزل جيلاً بكامله من الحداثيين»! فأعطاه حقه. ‏

وكان جورج طرابيشي الذي كنا نشبهه بـ«المكتبة المتنقلة» لكثرة ما يقرأ ويلخص ويترجم، دون كلل أو ملل، يقول لنا، في شيء من التخابث: «جربت كل عمليات التجميل التي يتحدث عنها الباهي: وجودية، ماركسية، فرويدية، واقعية، وها أنا أعود إلى التراث، وإلى مطاردة محمد عابد الجابري لاكتشاف عوراته التراثية! وكنت أمازحه وأقول له: «توقف عن مطاردة هذا المفكر الكبير مطاردة ضابط في الشرطة الجنائية لأحد المشتبه بهم من المجرمين الضالعين في الجنوح!». ‏

وكنت أنظر إلى رفاق الرباعية بحنان ووداعة وأقول: «ما زلت أعتقد أن حديقتي الثقافية بحاجة إلى المزيد من الورود والأزاهير، وما زلت مصراً على أنني لن أتوقف عن إغناء هذه الحديقة، هذا موقف رخو، رجراج، لأنه لا يحسم الاختيارات، ولا يبتر التناقضات، إنه موقف سياحي، وقد لا يكون مقبولاً في زمن مرذول كهذا الزمن، يتعرض فيه الإنسان العربي إلى التصفية الجغرافية بعد التصفية التاريخية، ولكنني أفضل مع ذلك أن أقضي عمري في العناية بأزهاري وورودي وتقليمها، لأنني على قناعة أن التكاملية الحضارية هي طوق النجاة الوحيد!». ‏

مع مرور الوقت اكتشفنا أننا لا نكتمل إلا إذا تواجدنا معاً وفي مكان واحد، وأن الحل الأفضل لكل هذه الصراعات التي تعصف بالوطن العربي هي التكاملية بين مواقفنا المتباينة جميعها، وإنني لأذكر أنه حينما علمنا برحيل الباهي محمد، قبل أوانه، انهمرت دموعنا كالثكالى، وشعرنا أن خللاً كبيراً قد حدث في التوازنات الحضارية، وأنه لا يجوز أن يغيب عنا هذا الإنسان الكبير، وكما أذكر أن عبد الرحمن منيف ـ رحمه الله ـ قال لنا بصوت نحاسي بعد غياب الباهي: «أكاد أختنق، أريد هواءً عربياً صافياً، لا قدرة لي على التنفس في هذه المدينة الفاجرة، سأرحل بعد أسبوع، وليكن ما يكون!» ثم أضاف: مأساتي أنني عربي أكثر من اللازم، ولكن هذا قدري!». ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

كان عبد الرحمن منيف هذا المارد الفنان، مناضلاً سياسياً، بالدرجة الأولى، كان مهيّأً ليكون «في الخندق الأمامي» من جبهات النضال، يخوض المعارك بشرف ونزاهة، ولئن اختار «خندق الرواية» بدءاً من «شرق المتوسط» مروراً بـ«مدن الملح» وانتهاء في «أرض السواد» فلأنه اكتشف أن «رؤية الواقع العربي» بعيون جريئة وصادقة قد يكون الطريق الأقوم لتغيير هذا الواقع وتجاوزه، ومن هنا فإن التسلل إلى النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لهذا الواقع، وعرضه بصدق وأمانة قد يكونان أكثر فائدة من طرح شعارات وتعبئة الرأي العام دون تعرية الجذور الحقيقية للتخلف والشعوذة السياسية. ‏

كان رحمه الله يكره «التنظير» ويرى فيه «طاعوناً» يفتك بعقل المثقفين والسياسيين معاً، وكان يتحاشى الوقوع في فخ التنظير، على الرغم من المحرضات والمغريات، وقد يتفق له أن يسترسل في تحليل ظاهرة، بهدف التوضيح والتفسير، ولكنه كان يعتذر بسرعة ويلوم نفسه على هذه «المغامرة»، وإنني لأذكر أنه استرسل، ذات مرة، في الحديث عن «الحداثة» التي هبطت علينا دون أن نكون مستعدين لها أتم الاستعداد، ولامستنا ملامسة سطحية، ولكنها لم تتغلغل في تراكيبنا العقلية والاجتماعية، قال، على ما أذكر، في معرض حديثه عن «الوحدة العربية»، والثورة الاجتماعية، والاشتراكية، ما يمكن إجماله عن النحو التالي: «لقد آمنا بالوحدة العربية، وسيرنا التظاهرات والمسيرات لتأييدها، وقام من بين صفوفنا من زعم أنه بسمارك»، وخيل إلينا أن الوحدة أصبحت جاهزة، وما علينا إلا أن نقطفها، ثم قمنا باغتيال بسمارك، والتففنا حول دويلات الدكاكين، نحرق البخور أمام الذين نصبوا أنفسهم سلاطين القدر، وتعصبنا للحدود المزورة التي رسمها الاستعمار، وها نحن نوزع شقف كل داعية للوحدة، لنبارك دراويش الديمقراطية المزورة، ثم قمنا بثورة اجتماعية ضد الاقطاع والوجاهة العائلية وصفقنا لمن زعم أنه روبسبيير أتى ليخلصنا من قصر فرساي وسجن الباستيل، ولم يمض وقت قصير حتى تبين لنا أن روبسبيير انقلب إلى سمسار يعمل لمصلحة الاقطاع والرأسمالية، فقتلناه وشيدنا قصور فرساي جديدة وسجون باستيل جديدة، وما زلنا نوقع العقود لبناء قصور وسجون جديدة، لا في الوطن فقط، وإنما في المهاجر، في مربايا، وكان، والكوت دازور، ثم استبد بنا الجنون الاشتراكي، وخرج من بين صفوفنا لينين جديد، ليخلصنا من التسلط الرأسمالي والامبريالي، وفي ليلة ظلماء اغتلنا لينين ودحرجنا جثته في الشوارع، وحرقنا البخور أمام طبقة جديدة من النبلاء أشد فساداً من بطانة القيصر، وها نحن «نتأمرك» ونعلن أن الديمقراطية المتأمركة هي الحل الأنسب، ولا ندري إلى متى سيدوم هذا الافتتان بالنموذج الأميركي؟». ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

وبعد أن انفرط عقد تجمعنا الرباعي في باريس، التقيت ثانية بالمرحوم عبد الرحمن منيف في مكتبة الأسد بدمشق بمناسبة الاحتفال بذكرى مرور عشرين عاماً على وفاة الأديب الكبير صدقي اسماعيل، وكان من المقرر أن يتحدث في هذه المناسبة أنطون مقدسي ـ رحمه الله ـ وعبد الرحمن منيف، وغازي أبو عقل، ورياض عصمت، وأنا، وقد ركزت في كلمتي على «اغتيال الإنسان الطيب الذي يرفض الزلفى والانتهاز، وكان مما قلته: «يمتاز الإنسان الطيب بثلاث صفات رئيسية، أولاها أنه إنسان أعزل، لا يحميه تكتل سياسي أو اجتماعي أو مهني، وهو لهذا مستباح الحدود دوماً، وثانيتها أنه إنسان مسالم لا يخوض معارك الهجوم وإنما يتلقى الصدمات واللكمات باستمرار، ولهذا فهو مهزوم دوماً، وثالثتها انه إنسان نبيل يلتزم بممارسات نظيفة ومشروعة، وهو لهذا مضطهد» وفي نهاية الاحتفال أخذني عبد الرحمن منيف بالأحضان وقال لي: «لكم أجدت في وصف اغتيال الإنسان الطيب، وحقاً لقد كان المرحوم صدقي اسماعيل انموذجاً فريداً في الطيبة والنبل». ولم يكن يخطر على بالي أن ما قلته في رثاء «صدقي اسماعيل ينطبق على عبد الرحمن منيف الذي يتحدث في روايته الأولى عن الأشجار واغتيال مرزوق»! والذي يؤكد في مقالة له عن الحداثة ان «الحداثة هي بطولة الواقع والبسطاء، وهي مرآة الناس والحياة» ولكم كان عبد الرحمن منيف مخلصاً لما يقوله ويكتبه. ‏

ـ 5 ـ ‏

حينما علمت بنبأ رحيل عبد الرحمن منيف، خاطبته: ‏

ہ ويا عبد الرحمن... ‏

ہ غادرتنا، ونحن نتلهف الى الكثير من نبلك، وبساطتك، وصلابتك، وننتظر نوراً، ولو على شكل بصيص، يكشف لنا مواقع الزلل والجنون في حياتنا، ويرسم لنا طريق الخلاص من الإذلال والارهاق، ويكون دليل التحرك في «أرض السواد» التي دنسها الاحتلال، وعهر سماءها الصافية جنود اليانكي. ‏

ہ ويا عبد الرحمن... ‏

ہ لم أعد أكترث بالأزهار والورود التي تحتشد بها حديقتي، ولا أجد متعة في سقايتها ورشها بالماء البارد، انها تصفر وتيبس، وتتساقط أوراقها. ما الفائدة من كل هذه الأزهار «الثقافية» التي كنت أقطفها وأزين بها حديقتي، وأرضي محتلة، وشعبي محاصر، والقتلة يعيثون به فساداً، والمستقبل يحمل الكثير من الفواجع الأخرى، ألعلك كنت مصيباً حينما قلت: «سعيد هو من يختفي قبل أن تستفحل الكارثة، والقادم أعظم!» ولكنك علمتنا المقاومة، والسخرية من التحديات، وإننا لمستمعون إليك، ولقارئون لكتبك. ‏

غسان رفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...