فريدريك نيتشه الفيلسوف الذي أعلن «موت الله»
في إحدى ليالي عام 1897، توجه فريدريك نيتشه إلى سريره في منزل شقيقته إليزابيت في فايمار (شرق ألمانيا). استلقى على السرير ولم يعد يتذكر أحداً، أو يتعرف إلى من هم حوله. بقي على هذه الحال حتى توفي عام 1900 بداء الرئة... كان نيتشه قد بدأ يفقد عقله منذ سنوات، ويتذكر سكان تورينو كيف ثار في الطريق محدثاً نفسه، بادئاً رحلته نحو النهاية. كان صاحب «هكذا تكلّم زرادشت»، عليلاً معظم حياته، منذ التقاطه للسفلس من إحدى بائعات الهوى في شبابه، وصولاً إلى إصابته بداء الشقيقة وضعف نظره، عدا إصابته في صدره خلال خدمته في الجيش.
الفيلسوف الذي يحتفل العالم بذكرى مرور 110 سنين على رحيله، درس اللاهوت تشبهاً بوالده القس، ثمّ توجه نحو فقه اللغة والفلسفة في الجامعة. لم يستطع العمل لفترة طويلة بسبب صحته الهزيلة. بعدما بدأ التدريس في الرابعة والعشرين، تقاعد في سنّ مبكرة متفرغاً للكتابة. رغم دراسته اللاهوتيّة، ثار على الدين والكنيسة وممارسات الأكليروس التي تستعبد الإنسان. ثورته هذه على الحتميات الأخلاقية الدينية والعلمية، ورغبته الجامحة بتحرير الجسد والعقل من الموروثات، حرّكت «الإستابلشمنت» ضده ودفعت الناس إلى قراءته رغم أفكاره الصادمة.
هذا ما جعله ربما المفكر الأكثر تميزاً في القرن التاسع عشر، إضافةً إلى ما قدّمه من أطروحات جعلته أبا الوجوديين، وكان لها أثر واضح على سارتر، وفوكو، وتوماس مان، وجوزيف كونراد، وأندريه جيد، وجورج باتاي، وموريس بلانشو... وجبران خليل جبران.
بول ريكور نعته بـ«فيلسوف الريبة» عام 1960، جامعاً إياه مع ماركس وفرويد. والمؤكّد أنه ترك بصماته على فكر القرن العشرين، مثيراً النفور تارة والولع طوراً والتساؤلات الحاسمة في كل الأحوال. أليس صاحب النبوءة الشهيرة عن «موت الله»؟ ومحطّم الأصنام التي بقيت في الغرف الخلفيّة للحداثة. أعاد النظر بمفاهيم الأخلاق والتقدّم والعلم واللغة، وأخضعها لنقد بلا هوادة. مفاتيح مشروعه الفكري صارت محاور ومفاتيح معرفيّة أساسيّة، من إرادة القوة إلى العودة الدائمة، مروراً بالرجل المتفوّق. أما مشروعه في الانقلاب على الفكر الأفلاطوني وتجاوز الميتافيزقيا، فصار مفاتيح في مشاريع فلسفيّة شتّى من هايدغر إلى فوكو، مروراً بجاك دريدا وجيل دولوز.
تعاظم نفوذ صاحب «ما وراء الخير والشر» (1886) في الأوساط الفلسفية الفرنسية منذ الستينيات، وصولاً إلى الثمانينيات حين حفزت نظرياته مبادرات تحدّي السلطة القائمة. قد يكون أهم إنجازاته تقديم نظريات إيجابية في عصر تآكلته الإيديولوجيات. فقد تساءل مراراً عن الجديد الذي أضافته الفلسفة الغربية منذ أفلاطون، في مواجهة القوى غير العقلانية. كان يعتقد أنّ اللذة والألم هما الثابت الوحيد، وهما مفهومان سيستعيرهما فرويد لاحقاً. تعرّف مؤسس علم التحليل النفسي إلى نيتشه من خلال لو ـــ أندرياس سالومي التي كانت تلميذته. وكانت سالومي، الروسية، قد التقت بنيتشه من خلال صديقها الكاتب بول ريه. وقد تبين من رسائل نيتشه إلى صديقه فرانز أوفربيك أنّ سالومي كانت ربما حبه الوحيد، وآلمه جداً أن تفضل ريه عليه، وخصوصاً بعدما أسهمت شقيقته إليزابيت في إبعاد واحدهما عن الآخر، كما يقول في إحدى تلك الرسائل...
شقيقته هذه، كانت السبب في ارتباط نيتشه بالنازية في أذهان الناس، لفترة طويلة. إذ قامت بـ«تحرير» كتاب «إرادة القوة» بعد موته، وأهدته إلى هتلر بعدما حذفت منه ما يناسبها. كان هتلر يمثّل لها تجسيداً لحلمها بالقومية الألمانية. ومعظم الذين يتهمون نيتشه بمعاداة السامية، لا يعرفون أنّ علاقته بإليزابيت تدهورت بعد زواجها شخصاً معادياً للساميّة. إذ إنّ نيتشه رفض الأديان كلها لاستعبادها الإنسان، لكنّه لم يكن يميز بين شخص وآخر.
في «إنساني، إنساني جداً» (1878 و1886) الذي يستخدم فيه مفاهيم السلطة والقوة لتفسير بعض الظواهر الثقافية والنفسيّة، يقول إنّ المسيحية تريد تدمير الكون، ويتطرق إلى مفهوم الدولة شاجباً الحروب والقومية. موضوع يتكرر في «عدو المسيح» الذي نشر في عام 1894 بعد سنوات على كتابته، وبعدما فقد نيتشه عقله. هنا ينتقد الحداثة، والمسيحية، ورجال الدين والفلاسفة ويرى أن المسيحية دين عدمي يؤدي إلى الانحطاط. عالج صاحب «العلم المرح» (1882) أيضاً مفهومي السلطة والقوة، وانتقد مراراً الفلاسفة الذين سبقوه لتقبّلهم الأعمى للمسيحية ديناً، ودفنهم لأي حسّ نقدي لديهم تجاه السلطة القائمة، وخصوصاً المعنوية منها.
فقد نيتشه والده وهو في الرابعة، وأمضى معظم حياته محاطاً بنساء العائلة. هذه الحالة دفعته إلى البحث عن الأب الذي يكون البطل الذكر ـــ السوبرمان ـــ في مخيلته. هوسه الأول كان بالفيلسوف شوبنهاور الذي تناول الموسيقى في كتبه، وهي التي كانت ترتبط بذكرى والده عازف البيانو. نيتشه كان يعزف البيانو بدوره، ويؤلف أحياناً. ومنذ سمع «تريستان وإيزولد» لريتشارد فاغنر، أصبح «فاغناري» الهوى.
هكذا جسّد فاغنر في باكورة الفيلسوف «ولادة التراجيديا» (1872) الأمل بإعادة ولادة ثقافة إغريقية ما قبل أرسطية، يعدّها نيتشه ذروة الحضارة. كان نيتشه يرى في فاغنر رجلاً ألمانياً أصلياً شجاعاً، يعرف كيف يوصل أفكاره إلى الناس، ويتطابق مع مفهوم شوبنهاور للفردية، أي يصنع خلاصه بنفسه.
لكنّ الخلافات اندلعت بينهما حين اكتشف نيتشه أنّ فاغنر من لحم ودم كالآخرين. بدأت الخلافات مع فاغنر على فلسفة شوبنهاور، واكتشف نيتشه كيف يتنازل فاغنر عن اقتناعاته الشخصية لتلاقي موسيقاه نجاحاً لدى الجمهور. أفكاره عن الزواج، وإلحاده، ونظرته إلى التقاليد البالية، لم تكن تظهر في أعماله الموسيقية حتّى لا يصدم الجمهور الألماني المحافظ.
هكذا ابتعد نيتشه عن فاغنر، لأنّه لم يكن يستطيع تقبل فكرة مهادنة السطحيين التي هي برأيه أسوأ من الانضمام إليهم. بعد موت فاغنر، كتب نيتشه «نيتشه مقابل فاغنر» و«قضية فاغنر» التي تحول فيهما فاغنر إلى رمز للانحطاط. هكذا، كان فاغنر يمثل ألمانيا القرن التاسع عشر لنيتشه، ويرمز إلى ثقافتها التي كرهها. فقدت موسيقى فاغنر بالنسبة إليه قيمتها ولم تعد موسيقى جميلة لأنّها تحاول تعليم الناس كيف يصلون إلى الأخلاق الحميدة، ولأنّ أسلوبه أخذ الحيوية من الحياة وحوّلها إلى شيء مصطنع.
في 1888 حلّ جورج بيزيه مكان فاغنر لدى نيتشه، وتحديداً أوبرا «كارمن» التي عدّها آنذاك أعظم ما كُتب للأوبرا. وحين كان في تورينو ذاك العام للاستجمام، بعدما ساءت حالته الصحية، شاهد الأوبرا كل ليلة خلال إقامته في المدينة. ورغم الشهرة التي حققها كتابه «هكذا تكلم زرادشت» (1885) الذي نقد الأخلاقيات السائدة وقدّم فيه نيتشه نظرته إلى الرجل الخارق (ubermensch)، يرى بعضهم أنّ أهم ما كتبه هو «جينيالوجيا الأخلاق» (1887) الذي يسرد تطور مفهوم الأخلاق في الغرب، كتاب تحوّل مرجعاً لفلاسفة آخرين.
مظلة الحصى
في الستينيات، زار ثيودور أدورنو منطقة سيلز ماريا في سويسرا بحثاً عن طيف نيتشه الذي استقر فيها لبعض الوقت عام 1889. هناك، التقى بعجوز يُدعى زوان كان لا يزال يذكر نيتشه. هكذا، روى له زوان كيف كان هو وغيره من الأولاد يعذّبون زائرهم الغريب، ويضعون الحصى في مظلته التي كانت تقيه الشمس. لم يركض نيتشه وراء الأولاد لتعنيفهم، بل استمر في تذوق فنّ الحياة الذي كان يراه الحلّ الأوحد لمشاكل الكون.
ديما شريف
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد