في انتظار رجل لا يأتي
تكن حياة مليكة مقدم الكاتبة الجزائرية، في اصدارها عن المركز الثقافي العربي: رجالي سوى امتداد لحلم متصل، ورغبة حد الهوس، بالتفلت والحرية، بغية تأليف حياة جديدة خارج صحراء الجزائر، ورمل البدايات والطفولة، وجور الأب وهامشية الأم وإرتباك الأخوة. في سيرتها الروائية، تترك الكاتبة موطنها حيث سيادة الرجل بالغة وقاسية وتستتبعها الاحكام والممنوعات، الاصوليات ونقص الاوكسجين في عيش المرأة بشكل عام. هذه عناوين عريضة استدعت بحث الكاتبة عن حياة اخرى، سوى ان أسباباً اضافية، بقيت خافية على القارئ، ومجهولة الى حد في السرد، ذلك أن جوهر الاشكالية الوجودية لدى الكاتبة، متجذر لا شك في ثيمات اخرى، بقيت على ما ذكرنا مستغلقة على القارئ في متابعته هذه السيرة، وفي مضي الكاتبة حتى النهاية في سرد علاقاتها المتخلخلة بالرجال، منتهية الى البقاء وحيدة في حياة بدت أقل دفئاً، مما ارتحلت لأجله.
الحفر المتكاثرة في حياة الجزائرية مليكة مقدم، لم تكف عن التكاثر كما جاء على لسان الكاتبة نفسها، لفرط ما تسير على حافة الهاويات. والهاوية في مفهوم مقدم، هي سعي المرأة في المجتمعات العربية، الجزائر تحديداً بلد الكاتبة، الى اعلان شغفها بحريتها، وإن بدا في الكفاح الصعب لأجلها، والمكلف الى حد، إفساداً لمذاق تلك الحرية بعد السعي إليها ونيلها.
الكتب العديدة التي كتبتها مقدم، وجذرها يخوض في التمرد وفي الاختلاف وفي الخروج على القطيع وإعلان العصيان على الغبن اللاحق بالنساء وعلى السائد عموماً، بقيت كتاباتها دون كتابها الاخير: رجالي وفيه إعلان ومكاشفة، عن رجال حياة مليكة مقدم الذين تركوا البصمات الأعمق في حياتها، الرجال الذين عبروا عبوراً او شاركوها الفراش، الذين أحبتهم او احبوها، عن الحب الخالص من وجهة نظر الكاتبة الحر، الذي يكره المساومات والتملك، ويمكث ويدوم خارج العلاقات القسرية.
- في العلاقة المنكسرة للكاتبة مع الوالد المتسلط، وهو الرجل الاول في تعداد الرجال في حياة مقلد، وتستهل رجالي عن هذه الإشكالية، وعن تعمد والدها إهمال وجودها وإيثار اخوتها الصبية عليها، وهيمنته الذكورية والفوقية على والدتها، وقسرها هي الطفلة على زواج تفر قبل حدوثه. ثمة علاقات الكاتبة مع الرجال، العلاقات الجيدة ايضا خصوصاً التي جمعتها بطبيب القرية وتسميه رجل قَدَري وهو د. شال الذي وفر لها في عيادته فرصة معاينة آلام الآخرين، ما ساعدها على الترفع عن آلامها الشخصية، خصوصا عملية حثها من قبل الطبيب على السعي الى حلمها الخاص في ان تصبح طبيبة، من خلال العلم والثقافة. الرجل الأشقر هو احد رجال مقدم، وحبها الاول في الزمالة الجامعية التي وفرت لهما مشروع زواج بقي مشروعاً من دون تحقق نظراً لاستلابه حيال قبيلته وقوانينها، ما شكل حال افتراق نهائية بين المحبين.
سوف لن نعدد قائمة رجال مقدم هنا، التي اشتمل عليها الكتاب، سوى انهم انتهوا جميعا الى أسبابهم ومعوقاتهم وبالاحرى، الى أسباب الكاتبة نفسها ومعوقاتها التي تحملها في داخلها، منتهية الى الإبحار مع الفرنسي جان لويس على مركبه الشراعي، لتبدأ حياتها معه في فرنسا، مونبلييه تحديداً، حيث عاشت حبها الاعمق والاطول عمراً، مع ذلك انتهى كما ينتهي اي امر، بالانفصال والهجر، في فكرة الكاتبة التي تفضل انتظار الرجل الذي لا يأتي أبداً، وبذلك يستمر حبه الى الأبد:
كنت اكتب بينما جان لويس يقرأ. كان يقرأ كثيراً، يقرأ روايات. وكان ذلك رابطا قويا بيننا، ضفتي الكتاب تلك: القراءة في تواقت مع الكتابة. كل الكتب التي تركتها في الجزائر، وجدتها ثانية عنده، اشتريناها سوية. حتى مركبنا الشراعي، ريح الرمل، كان يتباهى برفوف تعج بالكتب. كتب في ريح الرمل ريحي الرملية في عرض الأبيض المتوسط. من يبحر بالآخر؟ لا يهم، لقد تركت الاشباح المزعجة على البر. رفعت عيني عن دفتري، وطرح جان لويس كتابه على ركبته. نظرنا الى بعضنا البعض مدركين بأننا نعيش لحظات استثنائية رائعة. كنّا كمشاغبين ماكرين يلتذان بخدع تفرضها الايام الرديئة. واحد من النصوص التي كتبتها اثناء الإبحار: البحر، الصحراء الاخرى ينتهي بالكلمات التالية: أذيب البحر والصحراء، وأمزجهما في صورة واحدة: جرح حريتي المضيء. إن لكتاب رجالي، جاذبية لا شك، بالاضافة الى قوة التعبير في السرد الذكي، ولكنه الذكاء ذو البعد الأحادي، الذي يرى إلى مشهد واحد من مشاهد الحياة.
- رحلات وأسفار المقدم وحيدة أو مع أحد رجالها، منحتها قوة الملاحظة وقوة الرؤية، ما نلحظهما في السرد. غير ان هوسها بالفردية غير الايجابية، وبالخروج على النسق الإنساني الشمولي في تبصر الحياة ومعرفة دلالاتها، كما وعدم الأخذ بالاعتبار الى رغبات من يشاركنا عيشنا، من نصادق ونحب، ذلك ان الحياة تحتمل من لا يشعر او يفكر أو يحلم على غير شاكلة فكرة المقدم عن الحياة.
ثمة إيثار ذات الكاتبة على ما عداها، في حركة انفصالها الكاملة عن عالمها وعالم طفولتها واخوتها، وحتى والدها الجلاد والضحية في آن. مليكة في المناخ العام لروايتها، ترى الى الحوادث خارج الزمن الحقيقي، وتتخيل مجريات غير متحققة للعيش، تبقى هذه في فكرها وشعورها وكأنها اشكال تصويرية، بعيدة عن الواقع.
نتبين في كتاب مقدم، ان جعل الكاتب من نفسه موضوعا، يضعه في تناقض واضح مع مفهوم الحرية، التي تخضعها الكاتبة في رجالي إلى مواصفات شكلية، مقصرة عن مفهوم الحرية بمعناها الإنساني الارحب.
في الفصول كافة، عرضت مقدم الى طراوة عالمها الشاسعة في مونبلييه، وهي في عرضها توفرت على لغة رشيقة، بينت التفاوت المأساوي بين غنى المشاهد في عالمها الجديد في مونبلييه، وبين جمودها في ما خلفته وراءها من صحراء. سوى أن بوسع الأدب ان يكتب في التصحر ايضا، وأن يؤسس لغة خاصة وحية من المنظر الواحد وجفافه، الأمر الذي غفله قلم الكاتبة، منحازاً الى الطبيعة النفسية الوافرة كأداة تزيينية للكتابة.
لغة مقدم وإن رشيقة، غير انها مهجورة او فوضوية قليلاً، بالاحرى اصطلاحية، في الكلمات والاشارات السميكة، وتحمل في طياتها حقداً على الماضي، مبرراً بصورة او بأخرى، غير انه معاد لرحابة السرد ومربكاً له في أغلب الفصول.
مليكة مقدم بعد كل حالات العصيان والانفصال والاسفار والمنافي، مهرت روايتها بأن طفولتنا وحدها تستطيع ان تصالحنا مع ذواتنا، وفي التهويدة القديمة، وكانت نساء الصحراء يدندن بها لأطفالهن وتتغنى بالنجوم المتلألئة وبالنوم وبالحب، انهت سيرة رجالها، لائذة بذكرى طفولتها في الجزائر، في العودة على الاغلب، التي لا بد منها.
عناية جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد