كيتش لاهوتي
بدأ الإيطالي إرّي دو لوقا (1950)، الكتابة مبكرا، لكنه لم يشعر بالحاجة إلى النشر إلاّ العام 1989، حيث بدأت أعماله تظهر لتعرف الشهرة لاحقا، ولتترجم إلى عدد من اللغات الأخرى. عمل يتضمن اليوم أكثر من عشرين كتابا، وتتألف أساسا من «سرديات». وما تشديده على كلمة «سرد» على غلاف كلّ كتاب إلا في تأكيد عدم رغبته في أن يكون روائيا.
كثيرا ما يروي عن نفسه، وغالبا ما يعيد إحياء شخصيات معروفة، أزمنة مشتركة بين كثيرين. يتحدث أيضا في كتبه عن واقعه بأكثر الكلمات تطلبا، وكأنها «حرائق» تهرب من ذاكرته. فقبل أن يتفرغ للكتابة، كان مناضلا سياسيا (انتمى إلى اليسار الإيطالي المتطرف، رافضا أن يكون دبلوماسيا مثل والده، ليعمل سائق شاحنة، وعاملا في شركة فيات للسيارات، وحتى عامل بناء)، وقارئا للتوراة ومترجما لها، عاملا وشاعرا، قرويا ومحبا للعيش في المدينة بكلّ تفاصيلها، وما هذه «الفروع» إلا تأكيد لتجسيده «هذه المصائر المختلفة» التي تعيش فيه، كما لهذه الخيارات الوجودية التي يمكن لأي شخص منا أن يجد نفسه فيها.
أقرأ له مؤخرا في سلسلة «لوبوان» كتابا أعيد إصداره بعنوان: «باسم الأم»، ويحاول فيه أن يكتب سيرة متخيلة لمريم العذراء، حيث نجد فيه روح الكاتب «الحرة»، كما أناقته الأدبية المخالفة للمألوف، أقصد هذا الفضاء الذي لا يجيد كثيرون في تقديمه إلينا على طريقة دو لوقا. أول الانطباعات في أن كتابه هذا من أكثر كتبه «لُغزية»، على الرغم من انها تشبه تلك الحكايات التي تُروى في موسم أعياد الميلاد. إذ يروي، قصة البشارة، أي قصة الملاك الذي ظهر على مريم، والحلّ الذي اضطلع به يوسف لحماية خطيبته والهروب من الناصرة إلى بيت لحم حيث وضعت هناك في مزود، آلام المخاض التي شعرت بها، تنفسها الذي كان يتوه في الفضاء... وإذا ما كانت هذه الأمور من الأشياء المعروفة بحسب ما وردت في الكتاب المقدس، فإن الكاتب الإيطالي يحاول أن يتخيل ويضيف ـ وفق ما يقتضيه سرده الأدبي ـ بعض الجُمل والعبارات.
ربما يدافع دو لوقا عن نفسه حين يخترع هذه الجمل. أقصد انه لكثرة ما قرأ الأناجيل والتوراة، يحاول أن يعير صوته إلى هذه الفتاة الشابة. من هنا تبدو مريم وكأنها تلك «الأم الشجاعة»، تلك «المتمردة» التي تجرؤ على تحدي القوانين الإنسانية، إذ كانت حاملا وغير متزوجة، ما قد يفضي إلى رجمها، ومواجهة الأفكار والأحاسيس السائدة كما مصير ابنها، الذي هو وفق الرواية الإلهية، يحمل روح الخالق.
حكاية غير متوقعة، مليئة «بالسحر»، نجد فرادة الكتاب في هذه المسحة الشخصية التي يضيفها الكاتب على «الرواية الرسمية» ومحاولته الدخول أكثر إلى عمق النص، ليفتح من خلاله بعض التأويلات، كأن نجد بيت يوسف برودسكي: «لتعتد، أيها الصبي، على الصحراء». وبالتأكيد تأخذ الصحراء هنا، معنييها المختلفين، من حيث هي مكان، كما من حيث هي مجاز.
محاولة لتجسيد فكرة قديمة، أو بالأحرى لإعطاء الماضي إمكانية أخرى. لذلك يفترق كتابه بالتأكيد عمّا يسميه النقاد في إيطاليا «الكيتش الثيولوجي».
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد