لبنان بعد الحرب: رائحة الموت وطعم الانتصار
الجمل - أنس أزرق : بلعت ريقي ومعه غصة كبيرة عندما وقفنا أمام مبنى المنار المدمر والذي مازالت استوديوهاته تحترق حتى الآن، وكان الشباب يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه وهو قليل جداً ومعظمه لم يعد يجدي نفعاً من أجهزة وأشرطة وأرشيف.
لم تكن غصتي فقط بسبب المبنى الذي انتميت إليه عن بعد وإنما أيضاً بسبب تأخري عن الوصول إلى الضاحية الجنوبية التي خططت للمجيء إليها منذ ثاني أيام الحرب العدوانية.
كان شباب المنار ممتلئين عزيمة وإرادة، فهم استطاعوا مواصلة بثهم رغم أن المنار قد قصفت ثلاث مرات ولم يتوقفوا سوى دقيقتين وهذا ما أزعج مديرهم العام النائب السابق عبد الله قصير والذي قال لي "أن أحد أهداف الكيان الصهيوني في هذه الحرب كان إسكات صوت المنار" الذي ازدادت شعبيته بشكل لافت أثناء الحرب والسبب موضوعيته ودقته بنقل الأخبار وعدم وقوعه في فخ المبالغة أو الكذب مما دفع بعض الدوائر الغربية المعادية للقول "إن فوكس نيوز خسرت معركتها أمام المنار".
الطريق من المنار للمربع الأمني أو ما يطلق عليه حتى الآن في الضاحية "مربع الكرامة" لا يتعدى سوى مئات الأمتار تمر فيها على مئات الأبنية المهدمة والتي سويت بالأرض ومئات الوفود لبتي تعاينه والدمار ومئات الشباب و الجرافات التي بدأت برفع الأنقاض وهي مبتسمة راضية مما دفعني لسؤال د.حسين رحال مسؤول الإعلام بحزب الله عن سر هذا الرضى فأجابني "إنه يعود للتاريخ وللحاضر وللمستقبل .. فهؤلاء أبناء الاستشهاد وانتصار الدم على السيف .. أبناء الحسن والحسين، وأنهم أيضاً أبناء حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصر الله الذي قابل استشهاد ابنه بمثل تلك الابتسامة وقيادتهم مثلهم فقدوا منازلهم وبعض أبنائهم شهداء أو جرحى وهم لم يغادروا الضاحية، أما المستقبل فهم واثقون من النصر الأكيد" .
مسؤول ملف الإعمار د.بلال نعيم أكد لي أن ما يغيظ الأعداء اليوم قدرة الحزب على المبادرة والإعمار كقدرته في المعركة ونحن نعمل منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار والأغرب أن الأهالي يختصرون ذلك بالقول "فدا رجل السيد حسن" .. مما أشاع نكتة تقول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت أجاب عندما حدثوه عن حجم الخسائر الكبيرة لإسرائيل أمام المقاومة من جنود وعتاد ومستوطنين ودمار أن كل ذلك "فدا السيد".
نواب حزب الله وأعضاء مجلسه السياسي وقيادته موجودون في الضاحية ووحدها الاعتبارات الأمنية هي التي تمنع السيد حسن نصر الله ونائبه الشيخ نعيم قاسم أن يكونا إلى جانب هؤلاء، وهذه الاعتبارات التي جعلت من طريقنا للشيخ نعيم طريقاً طويلاً وبإجراءات مشددة لم تحصل معي في المرتين السابقتين التي قابلته فيها، المرة الأولى كانت بعد انطلاق اللجنة العربية لدعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني في دمشق عام 2001م، وانتخب الرئيس على ناصر محمد رئيساً لها وأطلقت بيانها التأسيسي من أمام ضريح صلاح الدين الأيوبي وطلبت يومها إجراء مقابلة للفضائية السورية وطلب مني الشيخ أن آتي لبيروت وقد فعلت، أما اللقاء الثاني فكان بمناسبة الذكرى الثانية لتحرير الجنوب عام 2002م.
الشيخ نعيم كان مطمئناً راضياً يشع بالنور وقد أجاب على أسئلتي بكل صراحة والتي كان بعضها خبيثاً كسؤالي عن شعوره وشعور زملائه الذين بدؤوا مع السيد نصر الله تجاه شعبية السيد التي تطغى عليهم.
الشيخ نعيم أراد أن يضيف كلمة بختام اللقاء وهي التعبير عن شكره لسورية رغم أنني تعمدت ألا أسأل عن ذلك.
من الضاحية الجنوبية إلى صيدا وصور:
الغبار يملأ المكان وما من جسر إلا صب الصهاينة حقدهم عليه أم اللافتات فتؤكد أنكم "دمرتم الجسور فعبرنا إلى قلوب الناس" وأخرى تصر على تبديل "دمار بـ عـ ـمار"، كل هذا نقله بسيط أم كيف ننقل لكم رائحة الموت التي تعشش في الأنوف والرؤوس .. نعم رؤية الجثث والأجساد المقطوعة أقل رهبة وتأثيراً من رائحة الموت التي لا يستطيع أحد أن ينقلها أو يصورها وهذا ما عاينته بنفسي مرتين أثناء هذه الحرب الأولى: في مشفى حمص الوطني بعد وقوع مجزرة القاع واستشهاد العمال السوريين، والثانية: في صور عندما شاهدت نقل جثامين 24 شهيداً وشهيدة من أطفال وشيوخ ونساء من أهالي مروحين الذين دفنوا في صور مع بداية العدوان وتم نقلهم إلى قريتهم المدمرة مروحين.
في صور كان اللقاء مع الشيخ نبيل قاووق مسؤول حزب الله في الجنوب ودار اللقاء حول الأوضاع الميدانية وأجابني الشيخ قاووق بما يمكنه الإجابة عن أساليب المجاهدين وعددهم وقوتهم والقوة الصاروخية وطرق الإمداد والتموين والاستعداد لعدوان جديد إن حصل.
اعترضت على الشيخ قاووق بأنهم عرضوا صوراً لتحصينات المقاتلين فأجابني "إن ما تم كشفه يعرفه العدو بل إن التحصينات هي تحصينات أقامها الصهاينة قبل تحرير الجنوب عام ألفين وما يعرفه العدو عن تكتيك المجاهدين لا يتعدى الواحد بالمئة فقط".
الشيخ نبيل استهدفه العدوان فدمر مكتبه والبناية التي يسكن بها وأدعى أنه جرح في هذه الغارة مما جعل الشيخ نبيل يعلق على ذلك "إنهم كانوا يستهدفون مواقع تركها الحزب منذ سنين لا منذ أشهر أو أيام" مطمئناً محبي الحزب "بأنه خرج من هذه المعركة أقوى بكثير مما كان".
مرة أخرى في بيروت:
في بيروت كانت هناك معركة من نوع آخر لا تقل شراسة عن المعارك في الجبهة، معركة السياسة التي قال عنها د.سليم الحص رئيس وزراء لبنان الأسبق والرجل الحكيم المتزن الذي ينتقي كلماته بميزان من ذهب "إن الانتصار العسكري يحتاج لاستثمار سياسي يوازيه لذا فالمطلوب حكومة جديدة تمثل كل أطياف المجتمع السياسي اللبناني" وهذا أيضاً ما أكد عليه أسامة معروف سعد رئيس التنظيم الشعبي الناصري في زيارتنا له في صيدا مطالباً الحكومة الحالية بالرحيل "لأنها تأخرت في معركة الإعمار وهي لا تستطيع فك الحصار الصهيوني عن لبنان".
النقاش في بيروت يدور حول الحكومة وحول الحوار الوطني وسلاح المقاومة وحول هذا الحصار والتفصيل الذي يأخذ مساحة من النقاش أكثر من غيره هو التفتيش الذي تتعرض له طائرات الميدل إيست التي تتوقف في مطار عمان .. بل إن أحد الصحافيين من خط المقاومة قال لي إنه "تلقى نصيحة في مصر ألا يركب طائرة الميدل إيست حتى لا يأخذه الموساد من عمان".
الدنيا قائمة .. قاعدة! والاستثناء الوحيد هم جمهور المقاومة وقيادتها فهم مطمئنون راضون لا يثنيهم شيء عن العمل والإيمان بأن النصر آت ٍ آت !!
الجمل
إضافة تعليق جديد