لمن يفكر بالسفر فقط..ولمن لا يعرفهم أيضاً:تجارب شباب سوريين موهوبين
الجمل– تحقيق– حسان عمر القالش: تبيـّن أنهم موجودون بيننا حقيقـة ! لكن كثيرا ما لا نشعر بهم .. هنا قصة مجموعة صغيرة من شباب سوريا المثقف, أي الذي يعمل بمهن تهم الشأن العام والصالح العام للبلاد. من هم ؟ وأين هم ؟ وكيف هم الآن ؟ بداية – وربما نهاية ! - يبدو أن سماءنا قد ضاقت عليهم ولم تعد تتسع لأجنحتهم, فالكل الآن يريد أن يسافر, وليس مبالغة قولنا "الكـل" فمن لم يعلن رغبته هذه لا يخفي أمله بها, وان عجز عن تحقيقها.
ثائر, المحامي الشاب والكاتب صاحب الموهبة بات يتكلم أخيرا بضيق وصوت مخنوق عن أصدقائه اللذين "لم يبقى منهم أحد هنا..وأقربهم مسافة موجود في الخليج". أخبرنا بأنه بدأ التفكير بالسفر الى أوروبا, ربما قريبا بعد أن "يطمئن" على أن آخر صديقين من أصدقائه قد "مشـت أمورهما وقبلت طلبات بعثاتهم الجامعية الانكليزية", وفي سهرة من سهرات وداع أحدهم قال " يبدو أنه من الصعب على أمثالنا أن يستمر هنا". صحيح أن بقعة كبيرة من التشاؤم تغطي كلام ثائر, وأنه قد يبدو مبالغا في أمره أو "زوّدها شوي" كما يقال !
لكن , هل يكفي تذكيره لنا بـ"الشرشحة" والمعاناة والضغوط التي عاشها ويعيشها ككاتب تغلب على المحامي الذي في داخله؟ عواصف تثبيط الهمم التي أدارتها الظروف عليه؟ الكم الهائل من الضغوط والمنع و"البلوك" الذي وضع على اسمه من أصحاب السطوة ومدراء مؤسسات الثقافة كي لا يكبر ويصير؟ لا جواب, خاصة اذا ما هاجمتنا ضحكات السخرية القدرية هنا عندما يخبرنا بأنه كان قد أصدر من سنين طويلة مراسيمه الخاصة ومنها "ممنوع الحصول على جواز سفر قبل زيارة كل سوريا..ومن لا ينجح في بلده لن ينجح في غيره" !.. نجاحه هذا محاصر بقيود وتضييق كادا أن يخنقا الانسان الذي فيه, " تقابلني كل يوم اشارات تقول لي ألا أمل لي, مع أني صرت معروفا بين الناس وفي مجتمعي الذي أحمل قضيته.. هم في النهاية يتضامنون معي, يخشون عليّ, ويقولون لي : صار لازم تسافر".
و السفر, لمن لا يعرفه ويستسهل الخوض فيه, وخاصة بالنسبة لنموذج الشباب الذي يشبه ثائر ليس مجرد "كلمة في الفم" أو كلاما يقذف في الهواء دون معنى أو أثر. فالألم الذي يعذب ثائر هو شعوره أن هناك "محاولة لاقتلاعي من هنا.. عن أمكنتي وناسي وطقوسي " فهو لم تتوسع شبكة علاقاته المهنية داخل البلاد وخارجها الا لأنه "جزء أصيل من هذه الأرض", كيف سيكون حاله اذا زرع في مكان آخر..بعيد ؟ ليبدأ من الصفر.. من لا شيء؟ عندما سافر الى أوروبا مؤخرا في زيارة, لمس هذا التقدير والاحترام عند من استقبله واحتفى به من أصدقاء ومعارف ومؤسسات ثقافية عريقة, هذا الاستقبال كان عظيما لأنه على شرف شاب مبدع سوري مكافح وأصيل.. من المنطقي اذا, في زمن اللامنطق, أن نراه على وشك خرق قانونه ومبدئه بعدم السفر, كيف لا يفعل, بل ما أحلاه ألا يفعل, والمحيطين به من أصدقاء ومؤسسات في أوروبا مستعدين لـ"تبويس يديه" اذا وافق على السفر؟ وها هو اذاَ قد وضع نقطة على السطر بانتظار أن يرى ما ستكتبه الأيام له على السطر التالي.
وليس بعيدا عن ثائر هناك رنا, الشابة التي تخرجت من احدى كليات العلوم الانسانية, وبألف واسطة وواسطة تدبرت لنفسها وظيفة في دائرة حكومية من ضمن اختصاصها, تعرفت فيها على "الملل والضجر وتزجية الوقت بشرب القهوة والشاي وكيد المؤامرات البيروقراطية الوظيفية للزملاء". ورأت بأم العين وأبيها كيف يتسلم الشخص غير المناسب إلا للنفاق والفساد مكانه المناسب في العمل الحكومي. الا أن فسحات من الأمل كانت تزورها أحيانا قليلة من خلال عملها مع المجموعات الأجنبية الزائرة أو المتعاقدة مع الدولة, جعلتها تعيد بناء ثقتها بنفسها وبمقدرتها العلمية. ومن يومها وهي تردد " بدي سافر..بدي كمـّل اختصاصي ..أعشق عملي", وأحيانا تسمع صوتها يـغـصّ وهي تتحدث عن أن " مافي مجال هون..حاولت..مستحيل".
هنا أيضا قد تكون رنا بهـّرت الأمور حبـّتين, لكن هل يغفر لمبالغتها, ان وجد من يظنها تبالغ, أن هذه الشابة الطموحة, المتـّقدة الحماس, المتحدثة بثلاث لغات, قد قاست الأمريـّن والمائة مـرّ من محاربة مديريها لها, من احساسهم بالتقزم أمام اجتهادها وقدراتها, ومن امتناعهم عن تلبية وعودهم لها بوضعها على قائمة المنح الدراسية ؟؟.. من يراها وهي تقاوم كامرأة "سيرورة التدجين" التي يسير عليها مجتمعنا مع النساء عندما يفرض عليهم أقدرا وصورا متشابهة, كسلى ومملـّة, لا بد أن يرفع لها القبعة, فهي لا تريد أن تكون من ضمن نموذج المرأة العاملة التقليدية " من البيت الى الوظيفة وبالعكس.. من ثرثرة الأعمال الورقية الى هموم الطبخ والأولاد" فدورها أكبر من ذلك كما ترى ونرى معها, وما أن نسمعها تقول : " ان حياتي كلها متعلقة بعملي. مستقبلي, خيارات الحياة وقراراتها متعلقة بأحلامي التي بنيتها على مهنتي واختصاصي ".. يصبح من العيب أن نحاول الاجابة على السؤال السابق.
قريبا من رنا نجد حازم, شاب متعلم ومثقف اختار أن يكسر الروتين الحياتي الذي حاول والده فرضه عليه بأن يسير في نفس طريقه ويمتهن التجارة. تمرد حازم على سطوة والده المادية والمعنوية ووجد نفسه في الصحافة, صار زميل مهنة. وكان يريد لنفسه " ألا ينظر لي الناس على أني ابن فلان, بل على أساس شخصيتي المستقلة, ما أكون وما أفعله". تحقق بعض مسعاه بأن استطاع تحقيق خطوات مهنية واثقة في زمن بسيط لكن" الطموح كان يكبر مع الأيام ومع كل انجاز"..هكذا الى أن نبتت في وجهه جدران التعجيز وأسقف المحدودية والتحديد ! فنسمعه يشتكي من " انك مهما اجتهدت فستصل الى حجم لا يمكنك أن تتجاوزه.. لن تتمكن من كسر التقليدي والروتيني في طرق تكوينك وايصالك الى أقصى الطموح". فرغم نجاحه المهني الا أنه بقي كاليتيم المقطوع من شجرة الدولة وعنايتها واهتمامها بالشباب المثقف كـرنا وثائر, فالنقابة لا تعترف به, ومن المستحيل تقريبا أن يتدبر لنفسه عقدا محترما مع صحيفة تقدره وتعطيه من الأجر ما يستحقه.. فمعلوم أن أجور الصحافيين السوريين هي الأرخص, بل ليس هم وحدهم انما كل سوري يشتغل بالثقافة.. وهو يرفض أن "يتوظف" في "صحف تبييض الأموال" – كما يصفها زميل مشاغب – كي يبقي على استقلاليته. وأخيرا اجتمع حازم بـرنا, التي أعادت شحن بطارية معنوياته..التقط منها "عدوى السفر" حيث سيكمل تعليمه أيضا ويطور مهاراته ويبحث عن آفاق صحافية جديدة.
كان ثائر هنا بمثابة "العراب" فهو الساعي لمساعدة رنا وحازم, الذي ألهمته رنا بدورها وصارا يمدان بعضهما بالقوة والأمل مع الأيام.. حصل كل هذا ضمن شبكة شخصية من الأفراد المتشابهين, التي من سماتها اجتماع أفرادها على رؤية وتفسير مشترك للعيش وطرقه, فكريا وسلوكيا. ويمكننا أن نتوسع بالشخصيات "الحقيقية والواقعية" لهذه الشبكة قدر ما نشاء, الا أننا اخترنا ممثلين عنهم, نحكي للناس معاناتهم, ونثبت من خلالهم أننا نملك في هذا البلد كنوزا من الشباب بعضهم بدأ يصاب بالاكتئاب والآخر يحلم بالسفر. فهل ندعو لأصدقائنا الثلاثة بالتوفيق عندما يجتمعون على باب احدى الممثليات الثقافية الأوروبية لتسليم طلبات مِنَحهم الجامعية؟
الجمل
التعليقات
مرارة أينما ذهبت، فماذا أفعل؟
صحيح نص نص
الأفعال أصدق من الأقوال
الرتل: طابور طالبي الهجرة على أبواب سفارات الدول الرأسمالية
الخطب: بيانات البطالة، والعجز، ونصيب الفرد من الناتج المحلي، ورفع الأجور...
الحق: الحقيقة، استخدمتها للإبقاء على ما بقي من الوزن
آه ...
إضافة تعليق جديد