ما بين التدين والتمدن والتقدم

12-07-2008

ما بين التدين والتمدن والتقدم

أتذكر عندما كنا صغاراً في القرية وتعلمنا درس الاستئذان أمضينا فترة طويلة نتناقش نحن التلاميذ في ما بيننا ومع الأستاذ في كيفية إمكانية تطبيق آداب الاستئذان على رغم وضوح الدعوة القرآنية في عدم دخول بيوت إلاّ بعد الاستئذان «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها» بل وضرورة الاستئذان في دخول الغرف «ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم...». ولكن البيوت في القرية مصممة (أتحدث عن أواخر الستينات وأوائل السبعينات) على نحو يجعلها متاحة للدخول بلا استئذان، وأنه حتى تصل الباب وتطرق عليه إذا كان مغلقاً، ففي العادة يبقى الباب مفتوحاً ومشرعاً للزوار والفضاء فإنك تكون في وسط البيت، وبالطبع فلم تكن هناك كهرباء ولا جرس يقرع، وكان الاقتراح أن ننادي من بعيد، ولم يكن ذلك سهلاً أيضاً لأنك تحتاج أن تجد مكاناً في الطريق منزوياً عن البيت وقريباً إليه أيضاً بحيث يسمع صوتك، وأما في الصحراء وبيوت الشعر فإنها قواعد تبدو غير مفهومة.
المثال وإن كان يصلح للتندر فإنه يؤشر إلى علاقة وثيقة بين الدين والتمدن، تجعل الرسالة الإسلامية وحتى كثير من الشعائر مرتبطة بالمدينة، مثل صلاة الجمعة والجماعة والزكاة وأحكام الشريعة التي تقتضي وجود سلطة ومجتمع، أي مدينة، والنظر إلى الآداب وقواعد السلوك التي يدعو إليها الإسلام فإنها تبدو بوضوح قواعد للتمدن، مثل الاستئذان، وخفض الصوت، والنظافة، والخصوصية في الحياة والطعام والنوم والعلاقة...
وفي الوقت نفسه فإن أنماطاً من التدين السائدة اليوم تشجع على القول بأنها في الحقيقة غلبة لأنماط التريّف والتصحر على حياة الناس وسلوكهم، وأنها تكاد تكون استحضاراً للثقافة والأفكار المصاحبة للرعي والصيد وسلوك البقاء.
وسأجازف بالقول: إن التدين في مجتمعاتنا يشوبه كثير من الفشل والفساد، وهنا فإنه (التدين) يتحول إلى مشكلة بحد ذاته، لأنه يدمر أهم عامل في الحماية من الفشل والجريمة والخطأ وفي التنمية والإصلاح أيضاً، لأنه يعطل الضمير والمحاسبة الذاتية ويحرِّف البوصلة باتجاه خاطئ ومدمر أيضاً، ذلك أنه يمنح أصحابه غطاء وشعوراً بالرضا والقبول تجاه أفعال خاطئة، من القبول بالاعتداء على أموال الناس وحقوقهم والأموال العامة، والتقصير في العمل والواجبات، والشعور بعدم أحقية الأفراد والدول والمجتمعات، وتبرير الأخطاء الشنيعة بل والجرائم، وفقدان الانتماء والمشاركة، والعدائية تجاه المجتمعات والمؤسسات، والاستعلاء المرضي الشبيه بالنرجسية، وعدم الاعتراف بالخطأ بل وتبريره وأحياناً شرعنته، وهو في المناسبة لا يختلف عن أسلوب المجموعات البدائية التي تعيش على السلب والنهب وتمضي معظم حياتها أو كلها لأجل البقاء، ولا تشعر بالخطأ أو المحاسبة الذاتية على اعتداءاتها على الآخرين.
التدين الحقيقي ببساطة هو الذي يساعد على النجاح في الحياة وتحسين حياة الأفراد والمجتمعات ويزيد مواردهم وتقدمهم العلمي والاقتصادي، وإذا كان المتدينون يعتقدون أن الإسلام يصلح للحياة وإدارة المجتمعات والدول وتنظيمها، فيجب أن يربطوه بالتقدم الذي يزيد موارد الناس ويمنحهم مكاسب إضافية في الغذاء والتعليم والصحة والسكن والمشاركة والأمن والاستقرار، ويعلمهم كيف يزيدون مواردهم باستمرار وينشئون موارد أخرى جديدة ومتجددة، وإذا كان الدين منهج حياة فإنه يجب ملاحظة ذلك في أسلوب الحياة وفي رفاه الناس واستقرارهم وتقدمهم.
ولكن ما يزيد الأمر سوءاً ويحوله إلى كارثة عندما يعتقد أصحاب هذا السلوك البدائي بأنه من الدين، فضلاً عن الخلط واللبس بين الدين والتدين، والواقع أن كثيراً من المتدينين يلجأون جهلاً أو زوراً وبهتاناً لحماية وتبرير سلوكهم وأخطائهم بالدين، وأخطر من هذا أيضاً هو اختصار وتبسيط وتشويه المفاهيم الكبرى التي تدور حولها الأديان كلها والحضارة البشرية والحياة الإنسانية أيضاً، وهي قضايا الحياة والموت والكون والوجود والحياة ما بعد الموت، وقد كان اعتبار هذه المفاهيم من أصول الدين، وسميت علم الكلام أي كلام الله المنزل، لأنها تشكل المحرك الأساسي للحياة والعلاقات والحضارة أيضاً، وليست اعتقادات مجردة بل وتحويلها إلى مجموعة أقوال مبسطة تؤدي بصاحبها إلى السعادة العظيمة، مثل التمائم والرقى الخرافية، أو كأنها عبارة «افتح يا سمسم» وهنا تكون خطورة التدين واختزال مفاهيم الدين وعزلها عن قيم الحياة والحضارة والتأثير فيها إيجابياً أو التأثير المدمر والضار، وتحويل مصادر الثراء الروحي والفكري وتقدم العلوم والفلسفة إلى خرافات وأقوال مبسطة... ثم خواء كبير في الذات يحرمها من الفنون والجمال والموسيقى وكل ما يهذب الحياة ويسمو بها.
ماذا يعني اعتبار الحياة أمراً مقدساً «من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً»؟ أليس إلغاء لكل مفاهيم ودعوات الفشل والبعد عن الحياة والانشغال والاستمتاع بها على نحو صحيح يحقق الحكمة منها ويطور حياة الناس إلى الأفضل، وهكذا فإن المفاهيم والقضايا الكبرى في الدين إنما هي لحماية المصالح الكبرى أيضاً في الحياة نفسها وليس تمضية الحياة بعيداً من الحياة استعداداً لامتحان شفوي بعد الحياة، ولكن الله منح الحياة للناس وجعلها أقدس شيء في الوجود لأجل إعمارها وللمنفعة «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه». فلم يمنح الله الحياة للناس ويدعو الى كل أسباب الحفاظ عليها وحمايتها إلا ليتعلموا كيف يحيون.
كلما رأيت جموع المقبلين على المساجد والمحاضرات وفضائيات الدعوة والإسلام أتساءل عن أثر هذا الإقبال على حياة الناس وأعمالهم إيجاباً وسلباً، ولكني أخشى أن كثيراً منها ليست أكثر من الهروب من الحلول القاسية المملة، ولكنها الحلول الوحيدة (للأسف الشديد) للتعلم والتنمية، والشفاء أيضاً، وهذا الشعور بالرضا الذي يحل عليهم بعد موعظة أو برنامج تلفزيوني لا تمنحهم سوى النشوة الزائفة ونسيان حقيقة أن العلم والعمل ليسا ممتعين وليسا مخدرات ولا نرجيلة!
وليست المشكلات والعيوب المتعلقة ببعض أنماط التدين كما ينصرف الذهن بسبب الإغراق الإعلامي تقع فقط في التطرف والإرهاب، ولكني أقصد أنماطاً شائعة من التدين أو السلوك الاجتماعي المدعوم بالتدين لا تندرج في التشدد والتطرف، ولكنها غالبا ما تكون في الميل إلى الحد الأدنى من الطاقة والتبرير الذاتي لعيوب ومشكلات اجتماعية من قبيل الكسل وضعف التعلم والحوار والاستماع والنزعة إلى البدائية في الفهم والتفكير وفي السلوك أيضاً وعدم الرغبة في إصلاح الذات وتغييرها وتمدينها وترقيتها، ثم منح هذه الأساليب البدائية والفظة في الحياة والتفكير والعلاقات مسحة من الدين تجعلها مقبولة أو مبررة وفي بعض الأحيان تصبح أصلاً يدعو أصحابه إليه، على رغم أنها في الحقيقة من مخلفات ورواسب حياة الصيد والرعي وجمع الثمار والبقاء.
المدينة تقتضي أساليب من الحياة والعلاقات والأعمال يجب أن يكتسبها الأفراد والمجتمعات في المدينة، وتقتضي بالضرورة أيضاً التخلص من أنماط من السلوك والتفكير لم تعد تصلح للحياة في المدينة إن كانت مقبولة في مرحلة من حياة الأفراد والمجتمعات، والمسألة ليست ترفاً أو تحولاً اختيارياً، فكيف ننشئ تفاعلاً صحيحاً بين التدين وبين أسلوب الحياة والسلوك الاجتماعي المطلوب أو المرغوب فيه؟

إبراهيم غرايبة

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...