مجموعتها الأولى «رمان» ... سعاد جروس شاعرة التعدد
الرسالة التي بعث بها الروائي السوري فواز حداد الى رياض الريس ناشر المجموعة الشعرية الأولى لسعاد جروس والتي شاء الناشر أن يثبتها على غلاف المجموعة تعكس روح الطرافة التي يتمتع بها الأول من حيث أسلوبه وطريقة تعبيره، كما تعكس طرافة مماثلة ومقرونة بالجرأة لدى الثاني الذي لم يتردد في اطلاع القراء على ما خفي من علاقات الأدباء والناشرين من دون مواربة أو تحرُّج. فحداد يشير الى تردد سعاد جروس في الدفع بمجموعتها الأولى «رمان» الى النشر، سواء بدافع الخجل والتهيب أو بدافع معرفتها المسبقة بموقف الناشر السلبي من الشعر، والشاعرات على وجه الخصوص، وفق تعبير الروائي السوري. وإذا كانت الرسالة في حد ذاتها تؤشر من حيث تلقائيتها وطابعها «الإخواني» الى أزمنة سابقة أكثر نقاء ووردية من هذا الزمن فإنها في المقابل تضع القارئ في مناخ التهيؤ لقراءة عمل خاص واستثنائيأ».
لعل السطور الأخيرة من الرسالة هي سطور ملتبسة وحمّالة أوجه. فهي من جهة تثير في نفس القارئ قدراً من الفضول لقراءة شاعرة شابة وجديدة يصفها أحد الروائيين المعروفين بالهدية، مع ما تحمله اللفظة من ظلال وأبعاد دينية ونفسية واجتماعية مفتوحة على الدهشة والاغتباط، وهي من جهة أخرى تفتح أعين القراء على النصوص المنشورة وتدفعهم مباشرة الى المقارنة السريعة بين التوصيف النقدي البالغ الإيجابية للنصوص وبين القيمة الفنية الحقيقية لها. ذلك أن رفع منسوب التوقُّع الى درجته القصوى قد يظلم «الواقع» الشعري ويصرف القارئ عن تناوله التلقائي للمجموعة المنشورة.
ولكي لا يقع شخصياً في فخ أي من الرؤيتين فقد حرصت أن أستبعد التواطؤ مع الرسالة أو ضدها وأن أقرأ المجموعة مرات عدة للوقوف على ما تقدمه من اضافات أو ما تخفق من ناحية ثانية في العثور عليه.
لا بد بداية من الإشارة الى أن عنوان المجموعة «رمان» لا يخلو من دلالة جمالية وايروتيكية تخلط بين الشجرة والمرأة حيث للرمان عند الأولى ثمره الرمزي الموازي في الجسد الأنثوي. الأمر الآخر اللافت هو خلو المجموعة برمتها من القصائد الطويلة والإفاضات اللغوية والإنشائية التي تسم معظم القصائد الحديثة. فالقصائد هنا أشبه بالخواطر أو اللمعات أو البرقيات المكثفة والموجزة التي تكتفي بالتركيز على فكرة واحدة أو على حالة مجتزأة من أحوال النفس. انها قصائد شبيهة بالتوقيعات التي عرفها العرب في تاريخهم القديم، أو بأشعار الهايكو اليابانية التي لا يزيد حجمها عن السطور الثلاثة أو الخمسة والتي تبتعد عن المناخات الملحمية والرؤى الشاملة مكتفية باقتناص اللحظات العابرة أو المشاهد السريعة الزوال، حيث الشعر يعمل على تثبيت اللحظة ومنعها من الاضمحلال كما تفعل الكاميرا تماماً. إلا أن الشعر في هذه الحالة لا يكتفي بالتحول الى عدسة أو مرآة عاكسة بل هو يعمل على تجزئة المشهد وتثبيت جانبه الذي يلائم المعنى، فضلاً عن طرح أسئلته المحيرة التي تتجاوز السطوح العابرة للمشاهد واللحظات والأشكال. واللافت في مجموعة سعاد جروس أن عدد قصائدها يزيد عن عدد صفحاتها بحيث تبلغ القصائد المئة وسبعاً وثلاثين قصيدة فيما لا يتجاوز عدد الصفحات خمساً وتسعين، ما يؤكد رغبة جروس في كتابة شديدة الإيجاز والاضمار والتقشف اللغوي.
على أن مشكلة هذا النوع من الكتابة تتمثل في كونها تحتاج الى موهبة استثنائية وخيال غير عادي في قدرته على المباغتة والإدهاش، وبخاصة لكونها تندرج تحت خانة قصيدة النثر. فإذا كانت قصيدة التفعيلة والقصائد الطويلة على وجه العموم قادرة على الاتكاء ما أمكن على الإيقاعات والأوزان والاحتشاد اللغوي فإن هذا النوع من القصائد لا يجد ظهيراً له سوى قوى المعنى وفرادة الصورة وجمالية المباغتة، وإلا تحول الى نثر عادي أو الى مجرد تصيد مفتعل للطرائف والمفارقات. ولا يختص الأمر بسعاد جروس وحدها بل هو ينسحب على معظم الإصدارات والأسماء التي قرأت لها مجموعات مماثلة في الآونة الأخيرة بحيث يظهر التفاوت واضحاً بين الإصابات الشعرية العميقة والمفاجئة وبين القصائد القائمة على تصيُّد النكات و «القفشات» المفتعلة. وتقديري أن مجموعة جروس الأولى ليست بمنأى عن ذلك التفاوت بين النصوص ولو أن تجربتها الشعرية تستند في جميع الحالات الى جرأة في مقاربة العالم والى التصاق عميق بالحياة لا الى النكتة السمجة أو الإثارة المتعمدة.
يبدو بعض قصائد سعاد جروس وكأنه يسدد تماماً الى حيث يجب أن يكون الشعر أو كأنه صدى لنزوع تأملي طويل أو ميل مزمن للإنصات الى ما تساقطه شجرة الحياة من ثمار الأمثال والحكم. ففي قصيدتها القصيرة «لماذا؟» تتساءل الشاعرة «ليس للحزن مكان في صباحاتي/ فلماذا يتمطى حولي بكل هذه البلادة؟ّ». وفي قصيدة مماثلة بعنوان «سعادة» تقول جروس: «أن أفهمك خطأ متعة لروحي، أن أفهمك صح هذا هو الشقاء». كما تقول في قصيدة ثالثة بعنوان مرآة «نصف المرآة يضيء وجهي/ والنصف الآخر يبتلعه/ هكذا لا أعرف نفسي». ثمة بالطبع نصوص عدة أخرى تظهر مدى توحد الشاعرة مع قصائدها ومدى النضج الذي اكتسبته من خلال ارتطامها بالحب أو بالرغبة أو بآلام الفراق أو بالطبيعة الإشكالية للعلاقات البشرية القائمة على الامتلاك وتضخم الأنا أو على النزوع السريع الى التآكل والزوال.
ومع ذلك فإن هذه الصورة الزاهية للكتابة كثيراً ما تخلي مكانها لصورة أخرى مغايرة حيث تقترب بعض النصوص من الترسُّل النثري والإنشاء السهل والخواطر العادية. انها نصوص أقرب الى الشكوى والتذمر والاحتجاج حيناً وأقرب الى التقريرية المباشرة والتوصيف الخارجي للمشاعر والحالات أحياناً أخرى. فنحن نقرأ في قصيدة «ناس» ما يشبه السجع الديني الرتيب والمكرر «أعوذ برب الناس/ من شر الناس/ وفساد الناس/ ومكر الناس/ وعهر الناس/ وطهر كاذب يدعيه ناس وناس». والحقيقة أنني لم أفهم البتة ما الذي يدفع شاعرة موهوبة كسعاد جروس الى تنكب مثل هذه الكتابات العادية والمستهلكة وهي التي استطاعت في أماكن أخرى الى تقديم صورة مغايرة عن نفسها وعن تجربتها. ولست أفهم أيضاً كيف أن شاعرة حقيقية يمكن أن تكتب قصيدة مؤثرة ومرهفة مثل «منظر» التي تقول فيها: «على غصن شجرة جرداء/ شيء ما ممزق، تعبث به الريح/ قلبٌ ودَّع حباً»، ثم تكتب في المقابل أشياء عادية وبلا مسوغ مثل «تشكيل».
تبدو مجموعة «رمان» أخيراً وكأنها مجموعتان شديدتا التباين ومتفاوتتان في انتمائهما الى الشعر. بل يبدو القارئ وكأنه إزاء شاعرتين مختلفتي القدرات. على أن ذلك لا يمنع من الإقرار بالموهبة الحقيقية التي تمتلكها سعاد جروس والتي يمكنها أن ترفدها لاحقاً بعناصر التميز والثراء والإصغاء أكثر فأكثر الى نداء الأعماق.
شوقي بزيغ
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد