مسرحية الأميركي إدوارد ألبي تجد مكانها في دمشق
تلك الظهيرة في «حديقة الحيوان»، كان يمكن كل شيء أن يكون عادياً، لولا أن الكاتب المسرحي الأميركي إدوارد ألبي أراد نحْتَ شكل آخر للمجتمع الأميركي في يوم عطلة رتيب في نيويورك، ستينات القرن الماضي، واقفاً بشخصيّتَي جيري وبيتر أمام سوسيولوجية مدينة مُتحوّلة بسرعة. قُدّمت المسرحية للمرة الأولى في ألمانيا الغربية عام 1959، ثم في أميركا بعد عام، وجالت حول مدن العالم كثيراً قبل إنتاج نسختها السورية (باللهجة العامية/ إخراج رأفت الزاقوت) بإنتاج مشترك بين دار الأوبرا السورية، ومؤسسة سيدا، ومعهد الدراسات الدرامية في ستوكهولم، ومؤسسة المورد الثقافي، وهي ستعرض من جديد بداية شهر شباط (فبراير) المقبل ضمن الملتقى الإبداعي السنوي للفِرَق المسرحية المُستقلّة (الأورومتوسطية) في الإسكندرية. لـ «حديقة الحيوان» ترجمتان باللغة العربية، صدرت الأولى منهما في الكويت عام 2009 عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ترجمة صدقي عبد الله حطاب، والثانية أُنجِزتْ قبل نحوِ خمسة عقود عن «الهيئة العامة المصرية للكتاب»، وكلتا الترجمتين أُنقِصَتا بعضَ المقاطع رقابياً، فالنصّ الأميركي مملوءٌ بالسخط والمكاشفة، وهو ما كان يُمثّل أحدَ تحدّيات إنجاز النص دراماتورجياً مع مطابقة مكانية لدمشق، ليُحاوِل الكاتبان الشـابّان عبدالله الكفري ووائل قدور (حازا المركز الأول والثاني على التوالي في مسابقة محمد تيمور للإبداع المسرحي 2009) من جديدٍ مُقارنةَ الترجمتين مع النصّ الأصليّ، من دون نكران المرجعية، وما أُهمِلَ سابقاً في الترجمتين حمل بالفعل في استحضاره إضاءاتٍ حاسمةً على الشخصيتين ودوافعهما، في محظورات (الدين، والجنس، والفكر)، فكانت هزةً دراميةً مسرحية.
فادي وصلاح (الممثلان رأفت الزاقوت وزهير العمر) شخصيتان منجزتان تحت وقْع عشوائيات العصر الحالي في دمشق، يلفّهما الغموض واللامبالاة، ولا شيء يوقف ذلك على المسرح، يقتحم شابّ في آخر الثلاثينات (فادي)، نزهة حديقة أسبوعية لرجل أربعيني (صلاح). يتّسم الطابع السيكولوجي لفادي بالقرف من سمات المدينة الحالية مع العيش على أطرافها الجنوبية المُشوّهة، حيث ترتفع قيمة المستأجر أو القاطن كلما انخفضنا طابقاً، وتـعلو حدّة التأزّم وهشاشة البنية الضابطة للـسلوك كلما ارتـفعنا طابقاً، لتتربّع المُثلية الحديثة على رأس الأبنية، مع الفقر، والهامـشـية الإنـسـانية، والشذوذ المعرفيّ.
خطاب شخصيّتي ألبي بقي كما هو حاداً رغم العامية الصادمة بمحليّتها، كنصْل حادّ يخترق المجتمع، أو كتلك التي غالباً ما يتحلّى بها المثقف العربي في حديثه اليومي (مُبطّنة، ومُلتفّة). ومن هنا دخل النصّ الزمن السوري بسهولة، لا سيما أن الفارق التطوّري للمدينة عن نيويورك يجعلها تُشبِهُها نسبياً قبل أكثر من نصف قرن. وربما تتثبّت مُقوّمات عبور نص «حديقة الحيوان» إلى الضفة العربية، مع اجتهاد الكاتبَين في العمل على النص مع المخرج الأميركي نيل فليكمان (سبق وأخرج العرض)، ما مكّن من فهْم تفاصيل بنائية ودراماتيكية مُهمّة لوضع أسس نصّ لا يبتعد عن الأصلي ولا يخضع لأجنبيته في التنقل بين الأمكنة والأحداث اليومية. لذا، فدمشق كانت حاضرةً بمناطقها (ركن الدين، جرمانا، شارع بغداد)، أو بالأحرى أماكن انغراس الطبقة الوسطى في عمق الحياة وما يتصرفونه هناك من المثالية إلى الانحدار.
المسرح البسيط المُقصَى حتى عن الحركة، هو الحلّ الإخراجي للزاقوت (مؤسس فرقة «باب» للفنون المسرحية) ثم يتفرغ لريبيرتواره المُجهدِ (فادي الآتي فجأة بمليون قصة ليُغيّر الحياة التأملية لصلاح الرجل الخامل)، يدخل في مونولوغ طويل في التجربة الثانية له كمُمثل ومخرج في عرض واحد بعد «نشاز» قبل خمسة أعوام تقريباً.
ليس على الخـشبة الخاوية إلا مقعد حديقة يجلس عليه صلاح، مُنكبّاً على رواية «الأبله» لدوسـتويفـسكـي، وكرسيّ آخر في عمق سينوغرافيا وسام درويش، لتتجول ميلودراما النص بحرية، وكـأنها تـقــتحم فراغ الديكور بتشييدٍ مُتخيّل وافرِ المعالم عن جارة فادي الشهوانية وكلبها الشرس، وكل ما يبقى من هوس فادي في رسم ملامح إروتيكية لمحيطه، فحتى الكلب يمتلك نوازع إيحائية وعدائية، تجعل فادي قانعاً بضرورة تسميمه. يخيم نص «حديقة الحيوان» على العرض بشكل طاغ لم تستطع حركة الممثلين القليلة تخفيفه أو امتصاصه سوى بالتعبيرات الانفعالية في الجمل الحوارية المُهروِلَة.
هل فارقتْ سمة الأخلاق الرصينة وجوهَ أدنى الطبقة الوسطى في العاصمة السورية، أم أن قراءة الأسى تغيّرت لدى الآخرين من أعلى تلك الطبقة، إلى درجة أنهم لا يُميّزون بين الفاقة وصعود نماذج بشرية مُشوّهة في وسطهم؟ فادي هو ابن أمّه العاهرة، وأبيه اللاموجود، وخصم خالته المُتعصّبة، غير مقروء ذاتياً، بالنسبة إلى مشاعره الجنسية، فهو بين الشذوذ والطبيعية، يثرثر بثقل على مسمع صلاح، وكأنه يلهث بالكلام راكضاً، يريد قول كل شيء قبل أن ينفذ تشويشه الأخير (الانتحار) على الرجل المسالم (ربّ العائلة المثالية). ماذا جرى في حديقة الحيوان؟ لا جواب واضحاً، إلا أن غوصاً في أسئلة أُخرى أرهق الشخصية الأساسية فادي، وجعل صلاح متلقي الشتم والمُهادِن، أشبهَ بدليل على اقتراب انقراض أعلى الطبقة الوسطى.أي أننا أمام الهُوة الكُبرى بين الثروة والعدم في دمشق، والنظرة الدونية من صلاح تترسّخ بعد حَشْرِه في اتّساخ هائل عاش فيه غيره مُدةً طويلة.
«حديقة الحيوان» في دمشق لا تُهادن في الكشف، ومخبوء المدينة يقود إلى الهزل والضحك، فالأفعال الإنسانية الحالية تتراجع لحساب المادة، والأمر المستعجل في نص قدور والكفري هو تحرُّر الجانب الحيوانيّ صوبَ تنميط المعيشة، ليُدهَنَ على وجهَيِ الشخصيتين طلاءٌ ذو لون رمادي. ثم إن أكثر ما يُحرّك المسرح في العرض هو اللغة السلسة والقلقة، فالاقتصاد في البناء البصري، جعل ما يُسمَعُ من انقلاب حادّ في لهجة صلاح ما بين الجِدّ والسخرية، موازياً لردّ فعل الجمهور، وكأن الصمت المُخيّم على كراسي المُتفرّجين ليس حقيقياً. فالتوتر يزداد كلما حاول فادي حشْر صلاح في زاوية مقعده الممتلك منذ زمن، والشراسة في النص الأصلي تخرج صراخاً في نهاية المشاهد. كيف لصلاح ألاَّ يعاود جلوسه على الكرسي ذاته يوم العطلة المقبل في حديقة «المزرعة» خلف مبنى وزارة المالية في دمشق؟ يحدث غالباً في هذه المدينة أن يتشاجر اثنان على كرسي في حديقة أو في الباص أو حتى في العمل، لكنه لا ينتهي بموت شخص كفادي، وتوريط رجل بصراع غير مُتوقّع كصلاح، ماهو مدى تطابق المسرح مع ثيمة مكان ليس له؟ الحديقة هنا ليست أميركية.
رنا زيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد