مع امبرتو إيكو وصور خيالية لغابة السرد ست نزهات في الرواية
يعد امبرتو إيكو من أهم النقاد الذين اشتغلوا على السيميولوجيا والدلالات في النص الأدبي وقد أثارت مجموعة المحاضرات التي ألقاها الباحث الإيطالي بدعوة من جامعة هارفارد في مدينة ييل الأمريكية اهتمام ناشر هناك ليجمعها إيكو ضمن كتاب ست نزهات في الغابة التخيلية, الذي يقدم للقراء تصورات للرواية واختلاف أشكال السرد أقرب إلى الغابة وفضاء الأشجار الكثيفة, وهذه ليست المرة الأولى التي يستعير مبرتو إيكو العناوين نفسها من وحي استعارات غريبة أحياناً وتقترب من منطقة حياتنا اليومية غير الواعية أحياناً, فالرواية الشهيرة التي كتبها إيكو بعنوان (اسم الوردة) لا تمت بصلة لا بالزهور ولا بالنبات حتى إنك لن تلاحظ ما يقترب من العنوان سوى لماماً, وكذلك في مقابلاته الصحفية الشحيحة يعمد إلى استخدام الاستعارة في تقريب وجهات نظر فلسفية معقدة, وهذا ما يشير إلى الروح المحلية التهكمية لديه أيضاً إضافة إلى قيامه بطرح أسئلة جديدة, فهو عكس الأكاديميين التقليديين, يعد صاحب مغامرات علمية أفضت إلى نظريات أدبية جديدة وطريفة وذات قيمة كبيرة, وكل هذا تعكسه كتابيه كلها, خاصة في محاولاته في تقديم السيميوطيقا كعلم للأدب, وفي كتابيه القيمين (النص المفتوح) loeuver duverte و(النص الغائب) le texte absent.
كما أنه عاشق للكتابة ومغرم بها, وله آراء قيمة تتعلق بالكتابة مفهوماً وممارسة يقول: (أكتب لأنني أحب أن أكتب. والكتاب هو عشيقة تعيش معكم دون أن يعلم أحد شيئاً. إنه سركم الصغير. إننا نتألم في البداية لأننا لا نعرف من أين نبدأ, ونتألم في الوسط لأننا لا نعرف كيف نجعل الحكاية تتقدم, ولكن ذلك يصبح متعة حقيقية. وحين ينتهي الكتاب لن تبقى إلا الحوارات وهي بالنسبة لي عبارة من مأتم).
ولطالما أعطى الكتابة كل جهده ولذلك فقد تستغرق عنده وقتاً طويلاً ويكفي أن نذكر أنه قضى في كتابة رواياته مدداً زمنية طويلة تتراوح بين ست وثماني وخمس عشرة سنة, وهو عندما يجيب عن سؤال حول طول مدة كتابة أي عمل نظري أو روائي يقول: إنه لا يريد أن يكرر الكتاب نفسه.
وهو من رواية إلى أخرى يغير البنية والأسلوب. ففي (اسم الوردة) رغب في تبني أسلوب كاتب الحوليات من القرون الوسطى وهو أسلوب شبه صحفي, بينما في رواية (جزيرة اليوم الذي قبل) لم يكن يعرف إن كان عليه أن يكلم شخصيته الرئيسية بلغة الباروك وفي الوقت نفسه لم يكن يستطيع أن يتبنى أسلوباً معاصراً, من ثمة جاءت فكرة الراوي الذي يتحدث بأسلوب الباروك.
كل هذه المميزات تجعل من إمبرتو إيكو واحد من الأعلام المشهورين الذين أثروا في الحياة الثقافية وأثروها.. ليس في إيطاليا حيث يعيش هذا الكاتب فحسب, بل وفي مختلف البلدان التي وصلت إليها أعماله وأبحاثه.
ست نزهات في الغابة التخييلية قام بها إمبرتو إيكو يعلمنا فيها الطريقة التي نتخيل فيها العالم الواقعي والتي لا تختلف مع تلك التي نتخيل من خلالها العوالم الأخرى الممكنة التي يقدمها لنا كتاب التخييل ويعلمنا طرق ولوج الغابة والتجول في داخلها, الخروج والهروب من المسالك الضيقة كذلك, وما هو أعمق من ذلك فإذا كان التجول في الغابة لعبة ما حسب إيكو قد نتعلم من خلالها طريق المضي قدماً وسط فضاء ما من دون أن تحمل خريطة في جيبك أيها الكاتب الناشئ, التجول في غابات غير معهودة يحفز المخيلة على المغامرة وكسر التقاليد حتى مع ذاتك والتنزه في عوالم السرد يمنحك الفرصة في تشكيل الحياة وفق أهوائك وبالرغم من أن النص لا يقول الحقيقة بالمعنى العلمي للكلمة إلا أنه لا يكذب أبداً.. الأمر الذي يثير الاهتمام بحث الكاتب عن تشكيل الزمن في أهم الروايات العالمية التي كتبت حتى الآن, ويشبه على سبيل المثال الضوء في رواية ما على ذلك الوميض المنتشر في كل الاتجاهات يحجب الرؤية ويضلل المتجول ويؤدي به إلى الفشل في تحديد ساعات الليل والنهار..
من جهة أخرى يتحدث إيكو عن الأسباب التي تدفعنا إلى قراءة الرواية مع أننا نعرف أنها ليست الحياة الفعلية ولا هي وقائع اليومي في غناه وتعقيداته التي لا تنتهي ولماذا نصدق ما يقال في القصص القصيرة ونتماهى مع كائنات لا وجود لها؟
ويجيب على ذلك: إننا نفعل ذلك لأننا ببساطة نريد التمسك بنسخة بسيطة من العالم.
كندة السوادي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد