من اعطى لأطفال اسرائيل اقلام الفلين العريضة ليكتبوا على الصواريخ
الصواريخ ناعمة ممشوقة، شكلها البيضاوي يطمئن الأطفال. انهم يدورون حولها يتمسكون بها كما يتمسكون بخواصر امهاتهم ويريحون رؤوسهم على وسطها. انهم أطفال ويصنعون امهات من كل شيء، ويمنحون لكل شيء أماً، لكن من جلبهم الى هنا ليكونوا أبناء الصواريخ. من جلبهم ليرسموا على الصواريخ. رسوم الاطفال وقائع. انهم يرسمون ليبثوا شيئا. اذا فعلوا ذلك فلن يزول ولن يبتعد. يضعون امهاتهم وحيواناتهم وعائلاتهم وخصومهم فلا يمكنهم بعد ذلك ان يفلتوا. من اعطى للأطفال الاسرائيليين اقلام الفلين العريضة ليكتبوا على الصواريخ: هدية الى اطفال لبنان. يكون الاطفال احيانا قساة. يكونون أشرارا. لكن من يجرؤ على ان يحاكم الطفولة، من جلبهم الى هنا، من اعطاهم اقلاما. من صورهم جنب الصواريخ. من أعطاهم كلمة السر <هدية الى أطفال لبنان> كان بالتأكيد طيارا يريد ان يقتلنا. ان يسفك وجوه اطفالنا على دمهم براحة ضمير. كان بالتأكيد يريد ان يؤنث الصواريخ، ان يجعلها أمهات، ان يهديها لنا ليزرعها في حلوقنا واضلاعنا بدون قلق. هذا في أفضل الأحوال. الأغلب أنه جلب الاطفال. انتزعهم من أذرعة امهاتهم ليريهم أي عائلة تنتظرهم بعد حين، عائلة الرؤوس المتفجرة والقلوب التي تدار بالليزر. لا شك في ان الأمر أسوأ. هدية الى أطفال لبنان. رؤوس متفجرة الى قلوب اطفال لبنان.
من يجرؤ على ان يحاكم الطفولة. يكتبك الاطفال قتيلا. يرسمونك قتيلا. من يجرؤ على ان يجازيهم. ان يكون الطفل عربيا أم اسرائيليا، سيكون اولا طفلا ومن يجرؤ على ان يجازيه. لكن للجيش الاسرائيلي قصة اخرى مع الاطفال الفلسطينيين دائما واللبنانيين الآن. قصة اخرى وغريبة ايضا. هل احصى أحدكم كم طفلا قتل الاسرائيليون منذ الانتفاضة الفلسطينية الاولى حتى الآن. انه عدد ضخم. لن نقول إنهم يفضلونهم أطفالا. سنقول انهم لا يتفادون الاطفال. سنقول انهم لا يفعلون شيئا ليتجنبوا قتل الاطفال. لا يهمهم ان يكونوا أهدافا عسكرية. لماذا يقتل الاسرائيليون أطفالا أكثر؟ لأنهم لا يبالون اذا كان هؤلاء أطفالا. انهم يدمرون بيوتا على رؤوس أصحابها. لأنهم يقصفون شققا سكنية لأنهم يهدمون مباني مأهولة، ويبيدون في كل الأحوال عائلات بأطفالها، ولأنهم يخطئون، يخطئون دائما تلك الأخطاء المقصودة التي تجعل الترويع مضاعفا.
للمرة الأولى أيا كانت سياسته يشعر العربي واللبناني ان في بسالة مقاتلي حزب الله وكفاءتهم القتالية، أمرا يخصه، أمرا يدخل في حساب بينه وبين نفسه. ثمة دين تاريخي، ثمة ذاكرة كاملة، ثمة تروما أصلية، ثمة احباطات غدت مع الوقت طبيعة ومزاجا، ثمة خجل لا يمكن شفاؤه. ثمة سخرية من الذات ويأس من الذات. ثمة كل ذلك وشجاعة وكفاءة المقاتلين في الجنوب جواب عليه. مهما تكن سياسة العربي واللبناني، الا ان الأمر ليس تماما سياسة وليس تماما ابن لحظته فقط، انه حوار مع التاريخ. بل هو تقريبا وفجأة عمل تاريخ. انها المرة الاولى التي تكون فيها الأمور بهذا الشكل، المرة الاولى التي لا يتعثر فيها العرب بحلمهم التاريخي ويقلبونه مسخرة عليهم. المرة الاولى التي لا يبدون فيها وقد رهنوا وجودهم وحياتهم باسكتش سيئ الاخراج، بفصل تهريجي، بهراء كامل. هي الحرب وها هم ببساطة يحاربون الآن، تكلموا عن قتال وذهبوا حقا إليه، مارسوه شجاعة وفنا وعلما وإرادة، أيا تكن النتائج. لقد حطموا الجدار أيا كانت النتائج فلن يخجلوا من أنفسهم، لن يعرضوها لعاصفة من الضحك والزراية. هذه المرة لن يقتلوا وهم يولون. لن تفرقهم الرمال، لن تبيد الطائرات قلوبهم، لن تكون حربهم سباقا. هذه المرة كان عليهم اكثر من الاستفزاز الكلامي، اكثر من الانشاء الحزبي. لم يظهروا عاجزين حتى عن الهرب، كذابين لا على أنفسهم فقط بل على العالم ايضا، غيلان كلام، غيلانا من ورق اذا استعرنا من جديد ما فالوقت يسمح. هذه المرة، هذه المرة، الذين اتهموهم والذين لاموهم هنا وهناك يقفون احتراما لهم، لقد اشتروا حياتهم بثمن غال وباعوها بثمن غال. ما من استخفاف، ما من نزق، ما من ادعاء، وقفوا عند كل شيء ولن يتسلمه الاعداء، اذا قدر ذلك الا مجبولا بالشجاعة والدم والصبر، سيكون فعلا ترابا وطنيا عند ذاك. ايا كانت سياسة العربي او اللبناني فإن له في حرب الجنوب دينا خاصا يستوفيه، تصحيحا لشيء في ذاكرته، تعويضا عن احباط، مسحا لخجل. ايا كانت سياسته فإنه لن يكون بعد الآن مسخرة الأمم، لن يكون بعد القاصر الأبدي. لن يغرق في فنه الوحيد الخاص: التهريج على نفسه.
لم تكن المعركة في البدء جامعة رغم كل الكلام التضامني. القصف على كل حي ومتحرك والقصف بالاطنان على الحياة المدنية والسلم والدولة زادا الأمر انقساما. كانت حربين ومعركتين. الآن بالضبط الأمر أكبر من سياسة، اكثر من حدث، ابعد من اليوم ومن اللحظة. انه نوع من استعادة حلم، انه مثال آخر. هدم لجدار انطولوجي، جواب بقوة تاريخ. لندع السياسة جانبا. الذين عميت ارواحهم وأعينهم وهم يبتلعون المساخر ليس عليهم إلا ان يفتحوا أعينهم الآن، ان يبصروا، ان يروا هذا المثال وهو يتكون. ان يجدوا للمرة الاولى معنى لكل هذه الكلمات التي حولناها الى ترسانة تفليسة وترسانة خدع ذاتية. عليهم فقط ان يبصروا. ليتركوا لما يجري ان يوقظ طفولة وصباح احلامهم، ان يعيد اعتبارا لكل هذا الهدر الذاتي الذي سميناه تاريخنا، اعتبارا لآمال بدت صفراء وخسائر بالأطنان في سبيلها. عليهم ان يبصروا الآن فقط ما يجري وان يأخذوا حصتهم منه، ان يتنفسوه أولا. ان يملأوا رئاتهم وأعينهم ومشاعرهم منه، وليكن بعد ذلك ما يكون، انه نسمة ولن نستحي من ان نعيرها لهذا العمر الذي تصحّر، ولهذا الموت في النفس.
لطالما اعطى القادة العرب في لحظة سقوط في أكاذيبهم ذريعة والبقية كانت فقط عقابا. كانت فقط جلدا وإذلالا جماعيا. هذه المرة بدأت اسرائيل عقابا أكبر. كان على كل حي ان يرتجف تحت طائراتها. كان الاسترخاص والاستخفاف ومساواتنا بالتراب. كان الطيارون يلعبون بنا، يلعبون بنوعنا وعديدنا ويحققون كل يوم بضعة نماذج دموية. تركنا بلا رحمة تحت الانقاض وبين الانقاض. سمحوا لنا ان نتحمس لأنهم لن يسخروا الآن منا بعد، لن يتعثروا بجثثنا وحدها، لن يتقدموا بطلاقة، لن يواصلوا بحرية نهمهم الدموي. لن يلعبوا بنا بعد اليوم من دون ثمن، انها لحظة. دعونا نُهْدها لأرواحنا.
مهما تكن سياسته سيجد اللبناني في معركة الجنوب شيئا يخصه. ستكون لحظة بلا سياسة، الآن نفهم ماذا يعني ان نترك الحساب لما بعد
عباس بيضون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد