نار حلب ـ الفلوجة أولاً أم معركة الرقة ـ الموصل؟
الى أين ستذهب الجيوش والطائرات والقوات الشعبية في كل من سوريا والعراق في الأسابيع المقبلة؟ أين تكمن الأولويات العسكرية والسياسية؟ والأهم أين تكمن المصالح والدسائس داخلياً وإقليمياً ودولياً؟ أي الجبهات ستفتح؟ في الموصل العراقية ام في الرقة السورية، وهل ستتزامن المعركتان مثلما يروّج له خلال الشهور الماضية؟ أم ستتبدل الاهتمامات الآن كما يلوح وتتجه الحملات العسكرية نحو معادلة حلب - الفلوجة اولا، اذ لا تستوي مواجهة حاسمة كالتي يتم الترويج لها بشأن «عاصمتي خلافة البغدادي» في الموصل والرقة، من دون حسم الجبهات الخلفية سواء في الخاصرة الفلوجية لبغداد، أو في العاصمة الثانية الحلبية حيث الرهانات السعودية ـ التركية في أكثر تجلياتها فظاظة في المشهد السوري.
ولا تقل معركتا حلب والفلوجة خطورة وأهمية عن معركة «عاصمتي الخلافة الداعشية»، في الموصل والرقة، وهو ما يعني أن استعادتهما ليست وشيكة كما يبدو لكثيرين، ومؤجلة الى حين نضوج مسارات التحضير السياسي والعسكري والإعلامي، علما أن الرهانات العراقية والسورية المعقودة، لا تزال ترى أن العام 2016 سيكون حاسماً بشأنهما.
الأميركيون من جهتهم، لا يظهرون استعجالاً، ويرى كثيرون موقفهم مريباً بينما تلتقي التقديرات على ثلاثة تفسيرات، أولها انتظار أميركي لجلاء غبار احتدام المشهد السياسي في بغداد ومصير حكومة حيدر العبادي، وثانيها توريط فصائل «الحشد الشعبي» في وحول الموصل المذهبية، وثالثها تمهل أميركي من أجل اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني المقبل، على أمل أن يصب قطاف المعركتين في سلة مكاسب الإدارة الديموقراطية في واشنطن.
وتطرح هذه الاحتمالات الكثير من علامات التساؤل عن نهايات الأنفاق السورية والعراقية، اذ تعني في ما تعنيه ايضا، أن الساحتين ستشهدان الكثير من حمامات الدم في المقبل من الشهور، فيما تعيد مملكة آل سعود تموضعها اليمني للحد من نكساتها، والبحث عن آليات مواجهة أقل كلفة لسمعتها وأموالها، ولملمة ميزانيتها المترنحة، فيما يعيد الروس ترتيب أوراقهم الإقليمية والدولية، ويتقدم الإيرانيون خطوة جديدة بالإعلان للمرة الأولى عن مشاركة «قوات خاصة» من الجيش الإيراني في الميدان السوري، مقابل تشكل «غرفة عمليات مشتركة» لحلب وريفها وهي تعلن في بيان نادر في طبيعته عن وصول «كل القوات الروسية وقوات حزب الله والإيرانيين إلى حلب»، بعدما بلغت المراهنات السعودية - التركية حد الاستماتة بمقامرتهما بترتيبات الهدنة القائمة برعاية روسية ـ أميركية.
حاولنا استطلاع آراء شريحة من الباحثين والخبراء والمحللين، من الولايات المتحدة والعراق وسوريا وإيران، للوقوف على حقيقة ما يجري. بعض هؤلاء من المقربين من دوائر صنع القرار في بلادهم ومن المرتبطين بميادين المواجهات. لكن المشهد العام، يحتاج الى الكثير من الإضاءة، خصوصاً حول طبيعة الخبايا في كواليس العواصم الإقليمية والدولية حول الشأنين العراقي والسوري، واستطراداً طبعاً ما يتصل بالأدوار الروسية والسعودية والتركية والإسرائيلية.
وبينما يقول الرئيس الأميركي باراك أوباما إن واشنطن «لن تصبر أكثر» على سيطرة «داعش» على الموصل والرقة، وتعتبر أن أولويتها الانتصار فيهما، فإن فهم طبيعة ما يجري فعلياً يتطلب كلاماً أكثر من الدعاية الأميركية الرنانة. وكما تشير توضيحات الخبراء والمحللين، لا «رقصة تانغو» بين الأميركي والروسي على الجبهتين. هناك تفاهم فضفاض بينهما، تحكمه إمكانات كل طرف وثقل حضوره، وبطبيعة الحال، مصالحه. الدكتور في جامعة ماريلاند الأميركية عادل شامو يقول إن «واشنطن تتعرض لضغوط تؤجل معركة الموصل. الأكراد قلقون من تدفق النازحين من الموصل ولا يريدون تحمل هذا العبء، والجمهوريون المحافظون الذين يسيطرون على الكونغرس مهتمون بانفصال أقاليم ودويلات وتفكيك العراق. الجمهوريون يدفعون من أجل التأجيل بذريعة أن الجيش العراقي ليس جاهزاً. الحكومة العراقية تريد تحرير الموصل قريباً لتؤكد قدراتها، بينما العراق تحول الى ساحة حرب تدمره».
مارينا اوتاواي، الباحثة في «معهد ويلسون» الأميركي، والمتخصصة بشؤون العراق والوطن العربي، تقول إن أسباب تأخر معركة الموصل مرتبط باعتقاد واشنطن أن «الجيش العراقي ليس جاهزاً لخوضها، وانه مثلما جرى في معركة الرمادي، فإن الأميركيين اختاروا العمل البطيء على مدى شهور»، مضيفة أن «الأميركيين، وإن كانوا لم يعلنوا ذلك مباشرة، إلا أنهم قلقون من غياب التفاهم السياسي بشأن كيفية إدارة شؤون الموصل بعد تحريرها، ولهذا يميلون الى التحرك ببطء».
وفيما يقول الباحث في الجامعة الأميركية في العراق (السليمانية) أحمد علي إن «التأخير ناجم عن الانشغال والتركيز على جبهات متعددة مثل الأنبار وصلاح الدين، ووجود رغبة أميركية قوية بتوفر قوات عراقية متعددة الأعراق وترتبط ارتباطاً رئيسياً بالقيادة العامة لرئيس الوزراء (العبادي) تأخذ على عاتقها الثقل الأكبر بطرد داعش من الموصل»، يجزم المتحدث باسم «الحشد الشعبي» العراقي أحمد الأسدي بأن العام 2016 سيشهد تحرير الموصل، التي وصفها بأنها «المعركة الكبرى» مع «الدواعش»، لكن بعد اكتمال التحضيرات العسكرية والإعلامية والسياسية، وهي أسباب التأخر حتى الآن، مؤكدا أن ما يجري الآن هي عمليات تمهيد أولية للمعركة، وان «الحشد الشعبي» سيكون أساسيا عبر تشكيلات من المسيحيين والايزيديين والتركمان والشبك والكرد الفيليين، بالإضافة الى آلاف المقاتلين من العشائر السنّة (نسبتهم 17% من مقاتلي «الحشد الشعبي») من الرمادي والموصل وصلاح الدين وديالى.
من جهته، يقول ليث العذاري، مدير قناة «العهد» العراقية، والتي توصف بأنها مقربة من «عصائب أهل الحق»، إن الموصل «قضية قرار سياسي» أكثر مما هي ميدانية، موضحا أنه ما إن يتخذ قرار، فلن تستغرق معركة الموصل أكثر من 3 أشهر لإنهائها.
وبينما يعتبر احمد الاسدي، أن المعركة الفعلية للموصل قد لا تكون أبعد من بضعة أسابيع عنا، يحذر ليث العذاري واحمد البحراني، وهو محلل عراقي خبير في الشؤون الايرانية، من معاني تبدل المواقف العراقية والأميركية من مسألة مشاركة «الحشد الشعبي» في المعركة. يذكّر ليث العذاري بأن العبادي والسفير الأميركي في بغداد والناطق باسم التحالف الأميركي ضد «داعش»، أعلنوا مؤخرا أنهم يقبلون بدور لـ «الحشد»، موضحاً «يريدون استدراج الحشد الى الموصل، وهذا خطأ عسكري تكتيكي، لان الفلوجة تشكل تهديداً مباشراً لبغداد وهي تحت سيطرة الدواعش».
يذكر البحراني بأن الفلوجة، التي لا تبعد سوى 50 كيلومتراً عن العاصمة العراقية، تمثل «ثالث مدن داعش بعد الموصل والرقة». يشير البحراني، المقيم في طهران، الى أن تحرير الموصل يتطلب سحب القوات العراقية المتمركزة في الأنبار وصلاح الدين وديالى، ليتسنى لها التموضع في أطراف الموصل استعداداً للمنازلة الكبرى.
يوضح ليث العذاري قائلا إن هذا التبدل الأميركي - العراقي، قد يكون الهدف منه إضعاف القوات العراقية والحشد بانتشارنا بعيداً عن العاصمة والمناطق الوسطى والجنوبية التي ستصبح بالتالي معرضة لاختراقات انتقامية من «داعش» مثلما جرى مؤخرا باقتراب العصابات المسلحة من مطار بغداد انطلاقا من الفلوجة والهجمات الانتحارية التي ضربت بابل والمقدادية ومدينة الصدر وغيرها.
والآن، تتعالى الأصوات العراقية المطالبة بالتحرك صوب الفلوجة قبل الموصل. أعلنها النائب عن ائتلاف «دولة القانون» علي الفياض قبل أيام. النائب عن «التحالف الوطني» علي المرشدي اعتبر استعادة الفلوجة أولا، مفتاح تحرير الموصل. رئيس كتلة «الصادقون» النيابية النائب حسن سالم يذكّر بأن الفلوجة الخاصرة الأمنية لبغداد، وتشكل تهديداً حقيقياً، وخطراً على العاصمة.
فهل هي بدايات تحول في وجهة المعارك العراقية، خصوصاً أن وسائل الإعلام السعودية دأبت مؤخراً على إثارة قضية «حصار الفلوجة»، وذهب بعض أصحاب الرؤوس الحامية في المملكة الى الحديث عن ضرورة عمل السعودية على تخليصها؟! الخيارات ليست سهلة، باعتبار أن التوجه الى الفلوجة الآن، سيؤخر حتماً خلاص الموصل، بينما الفلوجة التي شهدت مؤخراً انتفاضة شعبية ضد «الدواعش» جرى قمعها بدموية، يمكن أن تتحول شوكة للنفوذ السعودي، تقض مضاجع الحكم العراقي المترنح أصلاً تحت وطأة الخلافات السياسية والنقمة الشعبية، وفرصة للتلاعب بالمشهد العراقي المعقد، بما يخدم، ما يراه الحكم السعودي، صراعاً وجودياً مع ايران!
ومهما يكن، ستتضح الإجابة على ذلك خلال الأيام المقبلة، تماما كما يفترض أن تتضح مسارات معركة الريف الحلبي حيث اتخذت الفصائل المموّلة سعودياً وتركياً منحى تصعيدياً في ظلال «الهدنة الهشة»، يتيح لها وهي تمطر حلب بصواريخها، وتفتح الجبهات في أريافها، عرقلة العجلة المتدحرجة نحو معركة الرقة السورية. وبهذا المعنى، فإن لا معارك وشيكة في الرقة قبل الانتهاء من الأخطبوط الإرهابي المتغلغل في الريف الحلبي، إذ سيكون من الصعب تصور زحف قوات الجيش السوري والحلفاء من تدمر والريف الحلبي الشرقي - مع تقدم ما يسمى «قوات سوريا الديموقراطية» من الحسكة شمالا - نحو المعقل الأكبر لـ «داعش» في الرقة، بينما جبهات حلب ملتهبة بهذا الشكل. ومن هنا بالضبط، تكمن أهمية بيان «غرفة العمليات المشتركة» حول «أبواب جهنم» التي ستفتح ضد مسلحي «النصرة» و «حركة أحرار الشام» في ريف المدينة.
ولهذا ايضا، يقول أحمد الأسدي، المتحدث باسم «الحشد الشعبي» إنه بسبب الأولوية الحلبية كما يبدو الآن، فإن معركة الموصل ستسبق معركة الرقة. ومثلما ستكون الرقة معركة فاصلة للمشهد السياسي والعسكري السوري، فإن الموصل ستكون معركة فاصلة في المشهد العراقي.
لا يتفق الدكتور في جامعة ماريلاند الاميركية عادل شامو كثيرا مع هذا التصور. يرجح أن تحرك الأميركيين نحو الرقة يولي أهمية للسيطرة على المناطق المتصلة ما بين الرقة والموصل، أكبر من اهتمامه بما يجري الى الغرب من الرقة، بما يتصل بالريف الحلبي الشرقي. ويضيف «باعتقادي أن نجاح تحرير الموصل سيساعد الولايات المتحدة على الدخول الى معركة الرقة السورية من الجو ومن الشرق (من الجانب العراقي) لكي تتمكن من الانتصار».
دانيال سيروير، الباحث في «معهد الشرق الاوسط» الأميركي، وجامعة «جونز هوبكينز» الأميركية، يجزم بترابط الموصل والرقة. «هما مركز للجاذبية لتنظيم الدولة الإسلامية، ولا يمكنه خسارة أي منهما، واذا فعل، فسيضطر الى التراجع نحو الاخرى».
خليل حرب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد