نزار قباني بقلم صباح قباني
لقد بدأ تشكل الكون الشعري عند نزار في دارنا الدمشقية التي اصبح يعرفها قراء نزار بكل تفاصيلها المطيبة الحميمة: باحتها السماوية التي كنا ونحن اطفال نتراكض حول بركتها الوسطى ذات النافورة الصادحة ونتسابق على أدراجها الحجرية ثم نختبئ بين أغصان النارنج والليمون وعرائش الياسمين والليلك، وفي حنايا القاعات الظليلة ذات الزخارف.
ولما كبرنا راحت الحياة تأخذنا كلاً في طريق ولكن اسم نزار بقي عند الناس هويتنا الأولى فبه نعرف أينما كنا:
ـ حضرتك.. أخو الشاعر الكبير؟
وحين يجيب أحدنا بالإيجاب، وقد امتلأ زهواً، يحس أنه صار لأسمه بعد آخر جديد وأنه غدا جزءاً من مجد الشعر.
لقد كنت وإخوتي، ونحن فتية، أول شهود بداية الشعر عند نزار.
وإذا كانت قصيدته الأولى التي كتبها في ايلول 1939 قصيدة «حنين الى دمشق» فإن آخر ما كتب في آذار 1998 كان أيضاً «أنشودة حب لدمشق» حين أطلقت اسمه على واحد من أجمل شوارعها ورأى، قبل أن يغيب، كيف ظلت دمشق في حله وترحاله تبادله هذا الحب الذي خصها به طوال مسيرته الشعرية الحافلة. وتقول تلك الكلمات الأخيرة التي كتبها:
- «الرسم الجميل يرسمه رسامون دمشقيون والورد الدمشقي يزرعه مزارعون دمشقيون، والقومية العربية تصنعها السيوف الدمشقية».
وفي دارنا الدمشقية اخذ نزار عن أبي المناضل من اجل حرية بلده النفَس القومي والغيرة على الأرض والوطن، كما أخذ عن أمي مخزونها الفلولكلوري الحافل بفيض من ذكرياتها عن عمها العظيم «أحمد أبو خليل القباني» مبدع المسرح الغنائي في مصر والشام. ومن حكايات أمي عن أبو خليل تعلم نزار تحدي المألوف، وكسر خرافة التابويات، وأدرك في سن مبكرة انه هو ايضاً سيبدع نهجاً شعرياً جديداً يكون نسيج وحده مثلما ابتكر جده قبله بمئة عام صيغة فنية جديدة لم يسبقه اليها أحد.
ولعل الكثر يعلمون أن نزار كان قبل الشعر قد جرب أنواعاً أخرى من الفن: مارس الرسم والموسيقا وفن الخط، ومع انه توصل في النهاية الى أن الشعر هو قدره فإن الرسم والموسيقا والخط ظلت كلها فنوناً متشبثة به حتى النهاية، وما من مرة أتاحت لنا اسفارنا ان نلتقي إما في دمشق أو في بيروت أو في نيويورك أو في لندن أو في واشنطن أو في باريس إلا ويكون طلبه الأول هو أن نمضي معاً لمشاهدة معارض الفنون التشكيلية فيها، وكان غالباً ما يرسم أغلفة دواوينه ويكتب خطوطها بنفسه «وفن الخط تعلمه عند واحد من أكبر الخطاطين السوريين هو بدوي الديراني». أما الموسيقا فإن كل قارئ لشعره يحس بأن الموسيقا متغلغلة في كل حرف من قصيدته. وقد قال لي الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ذات يوم: «ان القصيدة التي تأتيني من نزار لا تحتاج الى كبير جهد في التلحين، فموسيقاها تأتي معها».
منذ الصبا الأول كنت أرى فيه رائداً لي في كل التجارب الفنية التي مارسها: يرسم فأرسم معه، يعزف الموسيقا فادندن معه، انتسب الى كلية الحقوق فالتحقت بها، ودخل الى عالم الديبلوماسية فما لبثت بعد فترة تسلمت فيها مسؤوليات إعلامية وثقافية وفنية متنوعة، ان لحقت به الى وزارة الخارجية.
ولكن حين أتى زمن الشعر توقفت عن المضي وراءه، فقد آثرت العافية بعد أن أدركت أن لا سبيل الى اللحاق بقامته الشعرية العالية. إلا أن لوثة الفن تجلت عندي في مجال التصوير الفوتوغرافي، حاول هو أن يعلمني كتابة الشعر، وحاولت أنا أن أعلمه فن التصوير، ولكننا أخفقنا نحن الاثنان، واتفقنا ألا اكتب أنا شعراً، ولا أن يحمل هو كاميرا!
-وفي عام 1968 أقمت معرضاً في دمشق لصوري الفوتوغرافية فطلبت منه أن يكتب مقدمة لكراس المعرض ويضع عنواناً لكل صورة، وعلى رغم أن صوري كانت على مستوى عال من الجودة، إلا أن عناوينها التي وضعها نزار كانت نوعا من الشعر الخالص، وكانت تستقطب انتباه زوار المعرض قبل أن يتطلعوا الى صوري. وأذكر أن أحد العناوين كان قد سقط من تحت صورة فاحتج الزوار على غياب العنوان وطالبوا بالبحث عنه وبإعادته إلى مكانه!
وبعد انتهاء المعرض هاتفته الى بيروت وقلت له وأنا أضحك: «مبروك يانزار، لقد نجح معرضك!»
وهذه هي المقدمة التي كتبها نزار لكرّاس المعرض:
«عندما نثر صباح قباني مئات الصور التي رسمها لبلادي أمامي لأكتب عناوينها، شعرت أن جميع اشجار التين، والحور، والصفصاف، والزيتون، والورد البلدي تنبت في راحة يدي.. وان الخراف الربيعية تترك بعضا من صوفها الأبيض على أصابعي.
صارت يدي ـ وهي تقلب الصور ـ يداً أخرى: عليها يسقط المطر، وتكبر سنابل القمح، ويسرح الرعيان، ويدبك الراقصون، ويغني الحصادون، وتملأ القرويات من ينابيعها الجرار، وتتناثر عليها مضارب البدو، وإيقاعات المهباج، وعبق القهوة العربية الطيبة.
صارت يدي مسرحاً تمتزج فوقه الألوان، والأصوات، والأهازيج، وتذوب كلها في نشيد واحد.. هو نشيد الأرض.
صارت يدي ـ والشكر لصباح ـ مرعى جَمَال.
وكما أخصبت يدي، وهي تتنزه مع صباح على طرقات بلادنا الجميلة التي نعرفها ولا نعرفها، ستخصب أيديكم، فصباح قباني يضع الوطن في راحة يدنا كما توضع التفاحة في يد طفل يرى التفاح للمرة الأولى.
سورية، تفاحة شهية، سكرية الرحيق، لكن أكثرنا مع الأسف لم يجرب أن يصل الى منابع النكهة والحلاوة في داخلها.
سورية، عند أكثرنا تفاحة ذهنية، تفاحة من المجردات، والخرائط، والأناشيد المدرسية.
لكن الوطن، ليصبح وطناً حقيقياً، لابد أن يخرج من نطاق التجريد ليكون وطناً نراه، ونشمه، ونلمسه بالأصابع. فلا وطن خارج نطاق الحواس الخمس.
وصباح قباني حاول بمعرضه الصغير أن يُخرج التفاحة الجميلة من دهاليز الذهن وأقبيته.. ويضعها بكل ملاستها واستدارتها في تجويف يدنا.
صور صباح الجميلة أهدتنا وطننا الجميل.. مرة ثانية».
نزار قباني
-وفي عام 1995 قررنا أن نقوم بعمل مشترك آخر، فعمدت إلى انتقاء كل ما كتبه نزار من شعر ونثر عن دمشق والتقطت الصور المناسبة لتلك القصائد والمقطوعات، وصدر الكتاب باسم «دمشق نزار قباني» وكتب له مقدمة بخطه الرشيق الأنيق تحت عنوان «دمشق..مهرجان الماء والياسمين».
وحين بعثت إليه بالنسخة الأولى من الكتاب الى لندن كتب يقول: «لقد بكيت وأنا أتصفح الكتاب لأنه اختصر خمسين عاماً من عمري ومن شعري. وبعد اليوم لن أكون آسفاً على شيء فقد كتبت اسمي على بياض الياسمين الدمشقي، وعدت مرة أخرى إلى رحم دمشق. فشكراً لك لأنك منحتني ولادة جديدة».
كانت الرسائل فيما بيننا تخرج عن نطاق مجرد العلاقة بين شقيقين، وإنما كانت تتناول الاهتمامات الفنية والفكرية التي كانت تشغلنا.
أما العبارات التي كان يكتبها نزار على الدواوين التي يهديها اليّ فكانت شيئاً مختلفاً عن الإهداءات الكلاسيكية، وهذه نماذج منها:
ـ «إلى صديقي على طريق الورد والجمر»
ـ «تعب الجسد ولا يزال جنون الشعر يخربش على حيطان المستحيل
إنها لوثتي ولوثتك ولوثة كل الذين يرفضون الاستقالة من قلوبهم
وأحاسيسهم»
ـ «إلى شريكي في سرقة النار».
ـ «إلى صديقي على طريق الثورة والتغيير وانتظار ما لا ينتظر»
وحين أصدر قصيدته «مايا» عام 1991 بشكل فني جذّاب كتب في إهدائها إليّ بخطه الجميل الأنيق:
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد