هل يتحول الصراع العربي- الإسرائيلي إلى النزاع السني- الشيعي (حماس نموذجاً)
الجمل ـ أيمن محمد: في خضم الأحداث العارمة التي تشهدها المنطقة العربية والتي اصطلح عليها اسم "ثورات الربيع العربي"، تطفو على سطح المشهد السياسي العام رهانات مذهبية من العيار الإستراتيجي الثقيل تكاد تكون الأبرز والأخطر في تاريخ المنطقة المعاصر. يتعاظم هذا الرهان على إثر عمليات التموضع والتخندق التي ترافقت مع بروز الأزمة السورية، وقد تمثلت آخر تمظهراتها في انفلات حركة المقاومة الإسلامية حماس مما كان يطلق عليه محور المقاومة والممانعة أو "محور الشر" بحسب التوصيفات الأمريكية.
هذا الحراك الاستثنائي أوحى للكثير من المراقبين والمتابعين -المحليين والدوليين على حد سواء- بوجود سباق جيو-إستراتيجي غير مسبوق مستند على ديناميكية البعد المذهبي المستتر للثورات المندلعة، والتي أفرزت بدورها حضوراً ملحوظاً لحركات الإسلام السياسي في أكثر من دولة عربية، بدت وكأنها تتحرك على أساس الهوية المذهبية والمصالح المذهبية، في محاولة لقلب الموازين والمعادلات وإنتاج منظومة جديدة عمادها مجموعة من الدول والتكتلات والأقطاب ومراكز القوى التي تتخذ من المذهبية معياراً أساس في رؤاها ومشاريعها السياسية. وبناء على ذلك، يبدو أننا دخلنا في مرحلة لم نعد فيها قادرين على الحديث بطريقة لا تبرز ندب السباقات بين المشروع السياسي الإسلامي السني من جهة، والمشروع السياسي الإسلامي الشيعي من جهة أخرى.
الكاتب والباحث الأمريكي المحافظ "لي سميث" اعتبر في مقالة له نشرت على موقع معهد هدسون للدراسات "Hudson Institute" بتاريخ 29/2/2012، أن "انشقاق" حماس هو "تجسيد للنزاع السني – الشيعي" الأشمل في المنطقة. وطالب الإدارة الأميركية بعدم "الاستمرار بالنظر إلى الشرق الأوسط من زاوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، مؤكداً بأن الحرب الحقيقية، وهي المعركة الطائفية الأوسع بين السنة والشيعة، جارية على قدم وساق". وأشار الكاتب في سياق تحليله إلى أن البرنامج الإيراني النووي يثير حفيظة "السنة" أكثر من الغرب وإسرائيل، مما يستدعي التحرك على هذا المسار بشكل أوسع. كما حذر الكاتب الإدارة الأميركية في ختام مقالته من "الإفراط في تفسير خطوة حماس بالابتعاد عن سوريا بأنها خطوة للتقارب مع تيار الاعتدال، والتعويل (الخاطئ) على حماس كشريك في عملية السلام، إن استطاع أوباما الاحتفاظ بالبيت الأبيض لفترة رئاسية قادمة". وفي سياق مماثل، قرأت صحيفة هآرتس بتاريخ 25/2/2012 ابتعاد حماس عن محور الممانعة، مرجحة أن تكون الحركة قد أبرمت اتفاقاً مع الإسلاميين السنة وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين المصرية، لتلقي بنفسها في حضن "الأقوياء" قبل ارتفاع وتيرة الانقسام الحاصل بين السنة والشيعة.
المارد السني ينهض مرة أخرى من تحت الرماد في أعقاب الربيع العربي. تُمثّل حركة الإخوان المسلمين –باختلاف أجنحتها وأذرعها- عقله المتنشط بفعل الفيتامينات السياسية المستورد بعضها، وتمثل الحركة السلفية –على اختلاف مدارسها وتياراتها- عضلاته المنتفخة بفعل البروتين الديني المنتج إقليمياً. تنبأ إدوارد لوتواك مستشار الشؤون الإستراتيجية لمكتب وزير الدفاع ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الأمريكية، بانتصار هذا المارد كاتباً في مجلة "الفورين بوليسي" بتاريخ 7/12/2012: "قد لا تنتصر الديموقراطية، لكن السنة سيفعلون بالتأكيد". يخالفه قليلاً المفكر والأكاديمي الفرنسي المخضرم أولفييه روا الذي رأى في مقال له نشر أوائل العام الماضي على موقع "new statement" بأن "المنتصر الأكبر في المنطقة بين السنة والشيعة سيتحدد على إثر النتائج التي ستتمخض عن إنتهاء الأزمة السورية"، في توصيف يجعل من دمشق أشبه بجدار برلين الذي حسم بسقوطه الصراع بين القوى الرأسمالية والشيوعية أيام الحرب الباردة لصالح القوى الرأسمالية. أما الكاتب التركي عاكف إمره فيوسع دائرة التحليل قليلاً لافتاً إلى أن الحرب الباردة ذاتها عادت من جديد بين "أمريكا سنية" و"روسيا شيعية" هذه المرة، في إشارة ذكية إلى حالات الاستقطاب التي تمارسها الدول الكبرى في المنطقة بأدواتٍ مختلفة من خلال اجتذاب كل جهة للأطراف الفاعلة في العالم العربي والإسلامي لصالحها.
بعيداً عن هذه الجدالات والنقاشات الدائرة في الأوساط الأكاديمية والبحثية، وبالإستناد إلى مفردات المعجم الفرويدي، فإن حالة الذوبان الزلزالي الدقيق للوعي الإسلامي الحركي في عمليات التمترس المذهبي من شأنها أن تأخذ المنطقة إلى أفق ظلامي مجهول. ذلك أن مسألة الهوية المذهبية –خصوصاً في المنطقة العربية والإسلامية- هي مسألة ذات حساسية عالية ومعقدة إلى أبعد الحدود، يمكن أن تحوّل الأزمات العالقة إلى منظومات وعقائد صدامية بدلاً من أن تبقيها على هيئة نظريات وأطروحات حوارية، فقضية الهوية هي قضية خصامية بامتياز، لا تحتمل المصالحات المفروضة لتخطي التوترات والصراعات القائمة والتي باتت تخضع لتصنيفات حادة وأنظمة تمثيلية تشيطن الآخر من خلال عمليات تصويرية مركبة تتطلب جهداً خارقاً لإعادة التقييد والسيطرة.
إن الحركة الإسلامية -والسنية تحديداً أكثر من غيرها- مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بإعادة ترتيب كاملة للمسرح الفكري والسياسي تحول دون تحريكها كأحجار على لوحة شطرنج أيديولوجي كما سبق وأن حدث في قضايا يعرفها العالم أجمع، فتعود مرة أخرى مجرد هراوة لدولة لديها مصلحة في استخدامها لمهاجمة دولة أخرى. مطلوب منها أن تعمل بجد وحزم على إزالة الغشاوة وتبديد الأوهام والرهانات بصورة فعالة بحيث تلغي كل أنواع الغمامات الأيديولوجية الحاضرة بقوة حالياً من خلال أشياء وأمور قادرة على التجوال عبر المذاهب، وعلى رأسها مصلحة هذه المنطقة "أولاً". ليس المطلوب منها إيجاد صوت فكري سياسي موحد، فهذا ليس بالمطلب الواقعي القابل للتنفيذ أو التطبيق، ولكن بات من لزوميات ووجوبيات الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر القدرة على التناغم مع أصوات أخرى لم يعد بالإمكان كبتها أو تجاهلها في المنطقة كما حدث في قرون طوال، وإلا وقعت بمجملها في فخ الخندق الدفاعي مرة أخرى في وجه نظرية فيكو "إن أسوأ العلل ما يأتي من الدين".
تتحمل الحركة الإسلامية المسؤولية الكبرى في حماية المنطقة من أي انزلاق نحو الحروب المذهبية والطائفية ويتوجب عليها التحرك أفقياً أكثر منه هرمياً داخل المذهب الواحد، كي تكون قادرة على التوجه لأكثر من جمهور وأن تتجاوب مع مشكلاتهم عبر قولبة نقطة انطلاق واضحة تتيح لها المضي بالعمل في طريق يحفظ مصالح الجميع، وعليها أن لا تنسى أبداً المفعول الارتدادي لحروب من هذا النوع، بل عليها أن تتذكر دائماً ما قاله يوماً أنجيلو كودفيلا أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن في دراسته "البدعة عبر التاريخ": إن "الحرب داخل الإسلام هي أشد خطورة على المسلمين من أية حرب أخرى يمكن أن تقع في هذا العالم".
إضافة تعليق جديد