والتر بنجامين مشعوذ اللغة وشاعر الفلسفة
في مثل هذا الخريف، قبل سبعين عاماً، نزل يهودي ألماني، في الثامنة والأربعين من العمر، فندقاً على الحدود الفرنسية الإسبانية... وقرر ابتلاع حبّات المورفين بكمية يعلم أنها قاتلة.
هارباً من وطنه النازي آنذاك، أخذ والتر بنجامين حياته بيده، كُفراً بقدره، كأنه يناكفه. ففي ذلك المساء بالذات، يوم 26 أيلول 1940، تدخّل «الأحدب الصغير»، للمرة الأخيرة في حياة ساحر عنيد لم يدركه صبر الشيب، ليعرقل عملية هروبه إلى نيويورك حيث كان ينتظره أرباب «معهد الأبحاث الاجتماعية» (مدرسة فرانكفورت) في مهجرهم.
«الأحدب الصغير»، ذلك المخلوق الخيالي، الطيب المشاكس، في أغنية للأطفال من التراث الألماني. يحشر نفسه في يوميات الأولاد، فيوقعهم في المتاعب ويجلب عليهم توبيخ الكبار. ربما حين استحضر بنجامين تلك الشخصية الطريفة في كتاباته، لا سيما في مقالته المطولة عن فرانز كافكا، كان يظن أنه يركّب تعويذته الخاصة ضدّ الشغب المصيري الذي مارسه عليه حظه العاثر، مشخصناً في قزم بشع ومحبب في آن. القزم الذي، بحسب الأسطورة (اليهودية) الشعبية، سيبدده ظهور المسيح المنتظر... وحتى ذلك الحين، لا يكلّ من مطالبة الأطفال، كل ليلة، بأن يذكروه في صلاة ما قبل النوم رغم كل شيء. «الأحدب» الملعون الذي لا يجد المرء أحداً غيره ليلومه على عدم نيل بنجامين اعترافاً كاملاً، بقدراته التنظيرية والنقدية الأدبية-الفلسفية الخارجة على كل تصنيف معروف، إلا بعد موته الدرامي. فقال بيرتلوت بريخت حين بلغه نبأ الليلة الظلماء على الحدود إن «هذه هي الخسارة الحقيقية الأولى التي يلحقها هتلر بالأدب الألماني».
لا أحد غير «الأحدب الصغير»... وإلا فأي صدف ملتوية أدّت إلى إفلاس متوالٍ لأكثر من دار للنشر: بالضبط لحظة استحقاق المكافأة المالية لبنجامين عن مخطوطة حرّرها، وفي أوج ضائقته المالية؟ أو مباشرة بعد تبلّغه بموافقة، أتته بشقّ النّفس، على نشر أحد أعماله (ليعاد اكتشاف المخطوطة في قبو دار نشر سويسرية عام 1962)؟ أي قدر أخرق جعل المسؤولين عن الحدود الفرنسية الإسبانية يقررون، وبالذات يوم وصلهم بنجامين بعد مسيرة طويلة مشياً على الأقدام، أن التأشيرات المؤقتة المحررة في مرسيليا لعدد من اللاجئين الألمان، لم تعد مقبولة؟ في تلك اللحظة قيل لبنجامين، ومعه قلّة تحملت مشقة الرحلة، إن عليهم العودة إلى فرنسا صباح اليوم التالي، وكان محتوماً أن حكومة فيشي سترجعهم إلى ألمانيا بموجب اتفاق مع الرايخ الثالث.
لم يحتمل والتر، ودفع بالحبوب الفتّاكة عميقاً في حلقه. وكان أن أحدث انتحاره دوياً أخلاقياً، فسمح حرس الحدود للاجئين رفاقه بالتقدم إلى البرتغال، وما هي إلا أسابيع قليلة حتى رفع الحظر عن التأشيرات... أيها الأحدب الصغير!
حليف «الأحدب الصغير»
إنما في ما يتعلق بضمور الاعتراف ببنجامين في خلال حياته، لربما وجد المشاغب الخرافي الصغير حليفاً... في شخصية والتر بنجامين نفسه. هو الذي خالف كل قاعدة فكرية مشهود لها في أيامه، ولم يرتح في أي تقليد أو منظومة عامة، كما لم يَهَب نقض أحد. ولعل تلك «المخالفات» نفسها هي التي جعلت أعماله غير قابلة للمقارنة مع أي نسق أكاديمي أو فكري مما كان سائداً في ألمانيا النصف الأول من القرن العشرين. الأمر الذي أثّر على مساره ككاتب ومفكّر منذ البداية، أي منذ حاول دخول السلك الأكاديمي، متقدّماً من إحدى الجامعات الوطنية بدراسة مطولة بعنوان «أصول التراجيدا الألمانية». فالأساتذة لم يتفهموا أسلوبه المعتمِد إلى حد بعيد على استشهادات ومقتطفات من نصوص عُنيت بها الدراسة، وهو الذي كان يفخر بتركيب «الموزاييك الأكثر جنوناً». ستمئة مقتطف يؤدي «الكولاج» المنهجي لها، برأيه، المعنى البحثي المنشود، لتصبح الكتابة بين سطوره هي العمل الثانوي. وزاد الوطأة أنه هاجم أيضاً كتاباً عن غوته، لباحث ألماني اسمه فريدريك غوندولف، وكان الأخير محسوباً على نخبة أكاديمية بدأت تأخذ وضعيتها الجامعية المرموقة. غير أن بنجامين نشر أخيراً «انجذابات مختارة لغوته» في مجلة أشرف عليها هيوغو فون هوفمنستال، بعدما رفضت أكثر من مرة لدرجة أن الكاتب كان قد يئس من إيجاد ناشر يقبل بها. هو النص الذي يعتبر اليوم تحفة حقيقية في مجال النقد الأدبي الألماني.
كتبت حنّة أرندت عن بنجامين: «كما أن كافكا لا يعتبر المرجعية النموذجية أو التقليدية للقصة القصيرة، فلا يمكن تصنيف بنجامين كاتبَ مقال أدبي أو ناقداً، فالإثنان خارج دائرة الإحالات والمقارنات المعروفة بيننا. كان بنجامين صاحب معرفة هائلة، وقارئاً مذهلاً، لكنه لم يكن باحثاً. تعمّق في النصوص الأدبية وتفاسيرها، وهو ليس بفقيه لغوي. جذبه اللاهوت دون الدين، لكنه لم يكن لاهوتياً أو حتى مهتماً بالإنجيل. كان أول ألماني يترجم (مارسيل) بروست، إلى جانب فرانز هيسل، وقبل ذلك ترجم «اللوحات الباريسية» لبودلير، ولم يكن مترجماً. وضع كتاباً عن مرحلة الباروك الألمانية وترك دراسة مهولة (غير منجزة) عن فرنسا القرن التاسع عشر، ولم يكن مؤرخاً. كان تفكيره شِعرِياً، لكنه ما كان ناظماً ولا فيلسوفاً».
ربما لذلك تميّز مشعوذ اللغة، وشاعر المفاهيم، والمتمرد على «النصوص الكبرى» - من كتب اللاهوت إلى «مقدّسات» الشيوعية والصهيونية - قبل أن يموت شابّاً بقراره. لكن إن كان والتر الطفل -المفكّر هو نفسه قد تآمر على بنجامين، مع «أحدب» الأطفال الألمان، وظروف الحرب العالمية الثانية، فلربما وجبت مباركة تلك اللعنة. فلولاها لما تسنى لقراء ومريدين اكتشاف كل ذلك الشغف، ولو بعد حين.
ظلّت نصوص الرجل تفتن، تشرّع النوافذ. لغته تستخرج المشاعر وتدهش العقل في وقت واحد. هو الذي فهم أولاً «لغة الحقيقة» (أو «اللغة الحقيقية»). شقّ «التجربة» ممرّاً للمعرفة، موازياً ومجابهاً «معرفة» ايمانويل كانط المرتكزة على فيزياء نيوتن. ثم دافع عن الفنّ المُمَكنَن، عن الجاز (في مراسلاته مع أدورنو المجموعة اليوم في كتاب مرجعي) والذي في البدء نبذته النخبة كما الضجيج، وتناول السينما كوسيط فني جدير بالتفاتة أخرى غير تلك التي أتاها بعض مجايليه من الماركسيين الأوائل... وهو الماركسي على طريقته الخاصة، وإن كاد ينضوي في الحزب الشيوعي في أواسط العشرينيات من القرن الماضي.
ليست الذكرى السبعين على حبّات اليأس هي المناسبة الوحيدة المتاحة للكتابة عن والتر بنجامين، احتفاءً به، واستعادةً لتنوعه كمفكّر وكاتب في شتى المجالات. بل إن راهنية ما ترشح من نصوصه الرئيسية. الثقافة كما رآها وتنبأ، أشكال الثقافة الجماهيرية/السائدة وقد ضربت جذورها أخيراً في أراضي النّخب، ممتطية ظواهر صناعية وتكنولوجية هائلة لا تزال تتطور حتى يومنا هذا. السياسة وقد تجاوزت النصوص المؤسِّسة. المدن وقد أكّدت حياتها اليومية - عَمارةً وشوارع وأفراداً - موضوعاً جدّياً للكتابة والإبداع والبحث بعين المتنزِّه بلا هدف. أما «لعبته» النظرية واللغوية، فلا تزال الطزاجة تفوح منها، كأنها خُبزت للتو على قصيدة هادئة.
الظواهر لا الأفكار
لعل أكثر أفكار بنجامين راهنية تتجلى في مفهومين اثنين: أولاً، موقفه من الأفكار الشاملة الكبرى (انطلاقاً من الإيديولوجيتين اللتين توّجتا عصره وبيئته كيهودي ألماني، أي الشيوعية/الماركسية والصهيونية)، وهو موقف ما زالنا نعاصر متوالياته. وثانياً، نظرته كمعجب جدّي بصنو الثقافة الجماهيرية (السائدة، اليومية، السلوكية) والتي كان ثيودور أدورنو مثلاً يعتبرها «ثقافة دنيا» تندرج ضمن تسليع التعبير الفنّي وتفاقم هيمنة طبقة اجتماعية على أخرى.
قد يفكّر قارئ بنجامين اليوم براهنية «ماركسيته» حين يقع على انجذب الرجل إلى فكرة «البنية الفوقية» (تفاعلات قوى الإنتاج إذ ترسم ملامح المجتمع بثقافته وفنونه وأفكاره ومؤسساته، أدوار أعضائه وطقوسهم، تركيبة الدولة ومراكز الفاعلية السياسية، الخ). البنية التي اكتفى كارل ماركس برسم «سكيتش» مختصر لها، قبل أن تتخذ دورها الأهم في مرحلة لاحقة. بالنسبة إلى بنجامين، كانت هذه «العقيدة» محفزّاً منهجياً، من دون أن يطيل الوقوف عند خلفيتها التاريخية أو الفلسفية، الأمر الذي ساء أدورنو وماكس هوركهايهمر، «الماديين الديالكتيكيين» بامتياز، فانتقداه بشدة، لا سيما مقالته عن بودلير والتي رفضا نشرها. وضمّ أدورنو صوته إلى صوت ماركسيين آخرين لاموا بريخت على «تأثيره الكارثي» في بنجامين «اللا-ديالكتيكي». والحق أن بنجامين أعجب بفكرة «التفكير الخام» البريختية، لكنه بدّل ربطها الأصلي بين النظرية والممارسة، إذ كان يحب أن يوظفها في ربط النظرية بالواقع، خصوصاً مع ميله إلى الحركة السوريالية وسعيه إلى «التقاط صورة التاريخ في أتفه تجليات الواقع، في مهملاته إن صحّ التعبير». باختصار، وعلى حدّ وصف حنّة أرندت، «أكثر ما كان يدهش بنجامين لم تكن الأفكار، بل الظواهر». وقد يفتح المرء هلالين هنا ليقول إن قلب بنجامين ظلّ مقسوماً بين الصهيونية والشيوعية، إذ لم تعنه الإيديولوجيا في أي منهما، بل المدخل إلى عالم أكثر واقعية مما كان عليه المجتمع اليهودي كما شرّحته مقالة شهيرة لموريتز غولدشتاين بعنوان «المسألة اليهودية». كان من ضمن انتلجنسيا يهودية لم تستطع التماهي مع انعزالية نظرائها من البورجوازيين وأبناء الطبقة المتوسطة، فرأت أنهم ينكرون الواقع المعادي للسامية من حولهم، بكل آليات خداع الذات والأوهام، وفي الوقت نفسه يميزون ضد يهود أوروبا الشرقية. أراد أن يظلّ يهودياً، من دون أن تصبح يهوديته السمة التي يعيش بها بين الآخرين. لكنه ما فتئ يشعر بأن أياً من «الحَلّين»، أي الشيوعية أو الصهيونية، سيقوده إلى خلاص زائف أكان في موسكو أو أورشليم، وسيحرمه من فرصة يفضّلها، وتُشابِه حال رجل على سفينة تغرق: «فالصاري أيضاً بدأ ينهار، لكنه يتابع تسلقه، لأنه من موقعه ذاك قد يتمكن من إرسال إشارة قد تؤدي إلى إنقاذه».
آلة الفن ونزهة الفلسفة
أما في ما يخصّ تأمله المنفتح على أشكال «الثقافة المُمكننة» والتي راحت تتجلّى في أيامه (التصوير الفوتوغرافي، السينما، الفونوغراف أو التسجيل الصوتي، إعادة إنتاج وطبع الفن الكلاسيكي بكميات صناعية ومن بينها لوحات وأيقونات شهيرة صارت بمتناول العامة، بل وتباع أحياناً كتذكارات سياحية أو تكوّن مادة إعلانية)، فيبدو أن انفتاحه هذا لا ينفصل عن ابتداعه شخصية «الفلانور»، وتقديره لـ«التجربة» كإحدى سبل المعرفة بما يعيد إلى الانتروبولوجيا وعلم النفس مكانتيهما في الفلسفة والفنون. إضافة إلى اهتمامه بـ«الحقيقة» المفاهيمية لأمور «هامشية» متنوعة لم يلامسها مثله أحد: كاللغة لحظة خضوعها للترجمة، ومَلَكة السرد التي شخّص مرحلة تأزّمها، والكتب حين تكون غاية هواة الجَمع بدل القرّاء، وحتى تدخين الحشيش كمسرَب إلى توليفة مغايرة للوعي والعالم والخيال.
اعتبر بنجامين أن «تزوير» العمل الفني، من خلال إعادة إنتاجه يدوياً، يحفظ للأصل سلطته، على عكس إعادة الإنتاج المُمكننة التي تضفي على «التقليد» استقلالية فنية وتقنية. فعدسة التصوير الفوتوغرافي، مثلاً، بوسعها التقاط ما يستعصي على العين المجردة إن انبرت لاستيعاب روائع كنيسة سيستين الإيطالية. وإعادة الإنتاج بمساعدة الآلة، تتيح للنسخة موافاة المتلقي في منتصف الطريق، الأمر الذي لا يستطيعه الأصل، كما هو الحال في حفلة موسيقية تغادر مسرحاً أو كاتدرائية – مُسجّلةً - لتُلعب على فونوغراف منزلي. أما التحسّر على «هالة» العمل الفني التي قد تذوي في نُسَخه، فهذا ما يستخفّ به بنجامين المؤمن بضرورة انتزاع الفن من قاعدته العِبادَوية... فكم سؤال وإشكالية آنية تثير الفكرة هذه، في عصر فنون الكومبيوتر والعصر الرقمي على سبيل المثال؟
برأي بنجامين إن التفاعل بين العمل الفني ومتلقيه، في ظروف مكانية وزمانية يحددها الأخير، تحيي النسخة بروح فنية جديدة ومستقلة عن الأصل. صحيح أن ناظرها لا يكون، في الحالة هذه، في حالة تركيز كامل كما في الغاليري، حيث قد تمتص لوحة نظرته. لكن للجمهور «المتلهّي» وعياً يغبّ العمل الفني. تماماً كما يشرب ذلك الوعي عمارة تاريخية في مدينته، أثناء ذهابه اليومي وإيابه، على عكس السائح المتسمّر أمام بناء أثري.
غير أن السائح هو غير «المتنزّه بلا وجهة» («الفلانور» بالفرنسية) عند بنجامين. ألهمته باريس، دون غيرها، نصوصاً طويلة بتلك العين المتجوّلة المتباطئة. عوّضت عليه المدينة نفسها ثغرات ما قبل تحولها كوزموبولتية، خصوصاً «اكزينوفوبيا» أهلها وصلافة شرطتها آنذاك. هكذا درس بنجامين «الجادات المكوَّنة من بيوت لا توحي بأنها للسكن، إنما بتوليفات حجرية موجودة ليسير بينها الناس». واكتشف «الفلانور» سرّ المقاهي التي «تزنّر المدينة وتمرّ من أمامها الحياة، كما المشاة، بأعداد غفيرة وحيوية لا نظير لها». كما حلّل الممرات المسقوفة، المزدانة بالقناطر، كرمز لباريس ذات المظهرين الداخلي والخارجي في وقت واحد، حيث يشعر حتى الغريب أنه يقطنها، كمدينة، كما يقطن بيتاً من جدران أربعة. ولشدة ما أُخذ بنجامين بتلك الممرات، عنوَن مخطوطته الضخمة عن باريس، «عاصمة القرن التاسع عشر وراسمة ثقافة القرن العشرين الأوروبية» بـ«مشروع الممرات المقنطرة»، لكنه للأسف لم يتمكّن من إنجازها.
جيولوجيا اللغة والحشيش
كهاوٍ لجمع الكتب التي لا يقرأها كلها بالضرورة (على غرار ولعه بجمع العبارات والاستشهادات من نصوص تشغله)، يكتب بنجامين نصاً طويلاً عن فعل الجَمع، وليس عن المجموعة: «فكل شغف يقف على حدود الفوضى، لكن شغف الجامع حدوده فوضى الذكريات... مرحلة إصدار كتاب قديم، المنطقة التي خرج منها، ملكيته السابقة... هي موسوعة سحرية لُبّها مصير هذا المقتنى». وبذلك، كما يقول، «تتحرر الأشياء من كدح كونها مفيدة لشيء معين».
وفي اللغة، نقّب عن انكشافها في «لغة حقيقية». بالنسبة إليه، اللغة ليست نعمة الكلام، بل جوهر العالم الذي ينبثق منه الكلام، وهذا ما قد نعثر عليه في لحظة الترجمة من لغة إلى أخرى: الجوهر اللفظي للحياة، وليس الهدف التخاطبي التواصلي الذي قد تؤديه اللغة. لعله هنا البرهان الأوضح على وصف أرندت بأن الرجل «يفكر بشعرية». وربما تصل «الفلسفة الشعرية» هذه إلى ذروتها حين يفتح بنجامين أبواب «التجربة»، وعندما «تكثر المرات التي يعمّها الإحراج لدى التعبير عن رغبة في سماع قصة.. كأن مقتنياتنا الأغلى على قلوبنا أُخذت منّا: القدرة على مشاطرة التجارب... سقطت قيمة التجربة... (في حين أن) التجربة المتناقلة عبر الأفواه هي منبع السرد والقصّاصين».
ألا تدفع تلك الكلمات بقارئها اليوم إلى تفكير آخر في السينما التوثيقية والدرامية؟ في الرواية أو القصيدة الحديثة؟ في المسرح المعاصر؟ في التراث الشفهي المتناقل عبر القرون؟
هو بنجامين الذي دافع عن أحقية ومشروعية رؤية وإحساس بالعالم، مغايرين للتقاليد: ناصَرَ معارف شعوب تتماهى مع حيوانات مقدسة ونباتات وتُسمّى بأسمائها، مجانين المصحّات إذ يدركون الأشياء غيرَنا، مرضى يحيلون أعراض أجسادهم على مخلوقات أخرى، وبصّارين يزعمون أنهم يشعرون بما يعتري سواهم من مشاعر واختلاجات وكأن تلك الأخيرة تلمّ بصميم كياناتهم هم... أليس هذا هو «الفهم» الذي منهج لاحقاً فروعاً وأبحاثاً جامعية كرّست علم النفس والاجتماع والإناسة؟ ليس فقط لدراسة شعوب منقرضة، وثقافات مغمورة أو فرعية، وهويات كبرى وصغرى، بل أيضاً للتأمل في سلوكيات «خاصة»... بالضبط كما أُغوي بنجامين بتدخين الحشيش لاكتشاف «وعي» من خارج النظام.
أغواه «المزاج العالي» للحشيش مثلما أغوته «اللغة الحقيقية»، وإن تفاعل مع التجربة هذه بشعرية أعتى، حتى صارت نصوصه حوله (كتبها في جلسات متفرقة بين عامي 1927 و1934) أقرب إلى نوع من «الأدب اللا-أرثوذكسي»: «حُسن نيّة بلا حدود. تعليق عقدة القلق. الشخصية الجميلة تتفتح. الكلّ يتحول إلى قوس قزح مضحك. وفي الوقت نفسه، المرء يعمّ المكان بهالته... الأمل وسادة تحتي، وقد بدأ مفعولها للتو... أتذكر مرحلة شيطانية، أحمر الجدران بات قراراً مؤذياً... يتكثّف الشعور بأن الموجودين في الغرفة محجوبون: صارت الغرفة مخملية، أكثر إشعاعاً، مظلمة أكثر. أسميتها دولاكروا (الرسام الفرنسي الشهير-رائد المدرسة الرومنطيقية)».
ما زال بنجامين يُقرأ كما لو أنه كَتَب أمس... سبعون عاماً مرّت على صدمة الحدود ومورفينها، كأنها الحياة المارّة أبداً أمام مقاهي باريس وتحت قناطرها.
رشا الأطرش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد