يوميات فرانتس كافكا (١٩١٠ ـ ١٩٢٣)
÷ مناخ كافكا
بدأ فرانتس كافكا كتابة يومياته منذ أوائل الثلث الثاني من العام 1910 وتوقف عن كتابتها في الثاني من تموز عام 1923 بعد أن استفحل مرض السل الرئوي الذي أصيب به العام 1917. فاليوميات تبدأ يوم كان كافكا في السابعة والعشرين من عمره، وتتوقف وهو على أبواب الأربعين. وأسلوبه في اليوميات، كما يشير لذلك مترجم ما حرره منها صديقه ماكس برود إلى العربية، في الكتاب المسمى «يوميات فرانتس كافكا 1910 ـ 1923»، خليل الشيخ أستاذ الدراسات النقدية المقارنة في جامعة اليرموك «سردي قائم على التدفق والاسترسال والحوار الداخلي والمزج بين الحلم والواقع وهو ما أدى إلى إنتاج عوالم رمزية شديدة الغموض تحيل العالم المادي المشخص إلى كيان هلامي مسكون بالسوداوية والرعب» (صدرت الترجمة عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، المجمّع الثقافي وهي الترجمة الكاملة لكتاب: FRANZ KAFKA TAGELOUECHER 1910 – 1924
ملاحظات محرر اليوميات ماكس برود الذي نشرها بعد موت صديقه بالرغم من نصيحته له بحرقها، تأتي في نهاية اليوميات، على صورة تدقيقات وتعليقات تقنية، حول تصحيح تاريخ أو اسم أو واقعة، فهو لم يتدخل على الإطلاق في متن الوديعة التي كانت بين يديه، مع تذييل يشير فيه إلى أنه كان قد نشر مختارات من اليوميات في العام 1937، أي بعد موت كافكا بمرض السل بثلاثة عشر عاماً، لكنه في الطبعة الراهنة لا يتعلق بمختارات بل يتصل بنشر كل ما خلّفه كافكا من كتابات.. بما في ذلك الفقرات الشظايا التي تبدو خالية من أي معنى. لكن برود يعترف بأنه حذف في بعض الحالات النادرة المسائل الحميمة والنقد الجارح الموجه إلى هذه الشخصية أو تلك، لأن كافكا في مذكراته لم يكن يتوجه إلى الجمهور بل إلى ذاته، إلا انه لم يمارس هذا الدور الرقابي في القليل الذي كتبه كافكا ضده، بعضه بلون من سخرية عابثة مستخفة، وبعضه بجدية.
رقّم كافكا نفسه دفاتر يومياته وهي ثلاثة عشر دفتراً.. إلا أن جسمها الرئيسي المودع في صفحات مرقّمة تصوّره صفحات غير مرقمة ولا مؤرخة. وكان يكتب في الدفاتر قصصاً وأجزاء من روايات استكملها في ما بعد. كما يشير المحرر إلى تمزيق بعض الصفحات... واليوميات هي ومضات أدبية، وبدايات لبعض القصص، وتأملات خاطرة في ذهن الكاتب.. ويكشف فيها عن البواعث التي تحركه، وعن الطريقة التي يرى من خلالها جهوده الأدبية بوصفها قوة مضادة للوسط غير الودود وللوظيفة الكريهة الشاقة بل المضنية التي كان يقوم بها، وكل ذلك يعرضه الكاتب في تفصيلات اليوميات ذاتها، ولا يتوقف عن تكراره، فضلاً عن استيحائه لخياله، فقد دوّن كافكا ما يعيشه من عالمه اليومي إلى جانب أحلام كانت تجيء على شكل قطع تتجاوز تلك الكتابات ذات الطابع الواقعي، لتشكل نقاط ارتكاز لإبداع أدبي. وهي بعض الحالات الاستثنائية السعيدة التي كانت تشكل قطعاً أدبية صغيرة أو كبيرة اختارها كافكا كي ينشرها. ويمكن للدارس ان يعثر على تلك القطع في الجزء الأول من الكتابات الكاملة (Gessammelte Shriften)، ونحن نعثر في سياق اليوميات على أضواء غير متوقعة تكشف مضامين تلك القِطَع.
هناك يوميات دوّن فيها كافكا رحلاته، وهي ذات شخصية أسلوبية مختلفة. انها إذا صح التعبير، كتابة برغماتية، وعلى الرغم من نقلها بعض الوقائع إلا أنه يكتنفها غموض خاص، ما يجعلها بعيدة عن كل ما هو عادي وذات أبعاد رمزية.
÷ فرانتس كافكا: أشلاء من اليوميات
يوميات فرانتس كافكا يوميات ممتعة، بل كتابة ذات جاذبية خاصة، تشعر معها بالتعاطف، وتقرأ ملاحظات وجملاً فيها من الحدة والملاحظة الدقيقة والطرافة ما يشدك إلى القراءة بشغف خاص يختلف عن الشغف برواية أو قصة أو قصيدة. وهنا بعض ملاحظاته «إن حالتي ليست تعيسة لكنها ليست سعيدة أيضاً. إنها ليست حالة اللامبالاة أو الضعف أو الإنهاك. وليست هي حالات أخرى. فماذا تكون؟» «لم يحدث أن كنت قادراً على الاختيار بين مسألتين»، «هناك أمل غامض، لكنه ليس أحن حالاً من النقوش على النصب التذكارية للأضرحة»، «إن شكوكي تحيط مثل الدائرة بكل كلمة»، «أنا وحيد»، «هل سيكفيني بصري طول حياتي؟»، «أستطيع أن أنجز كل شيء من دون أن أنجز شيئاً»، «يقول في وصف الثيوصوفي الدكتور شتاينر: ذهبت إلى عيادة الدكتور شتاينر ووصفت له حالي كفتون بالأدب وغير قادر على الإنجاز. كان يستمع إليّ باهتمام بالغ جداً من دون أن يبدو أنه ينظر إليّ إطلاقاً. في البداية أزعجه ذلك الرشح المتواصل من أنفه، لكنه كان يواصل إدخال منديله عميقاً في أنفه، ثم أدخل إصبعاً في كل فتحة من فتحتي أنفه» «مشاعري سمكيّة الطابع»، «أنا مطروح من عالم النوم»، «يمكن أن تقول إنني نمت بجانب نفسي»، «... أخيراً، تمكنت من العثور على فعل (يسم) والجملة المناسبة له. لكنني ظللت أحتفظ به بتقزز وشعور بالخجل في فمي وكأنه لحم نيء قُدَّ مني»، «انتقال غير فني من الجلد المتوتر لصلعة رئيسي إلى التجاعيد الرقيقة لجبهته. إنه تقليد سهل جداً لخطأ الطبيعة»، «في العربة، أنف المرأة العجوز المدبّب، وجلدها الغضّ المشدود، هل ينتهي الشباب في رأس الأنف؟ هل يبدأ الموت من تلك النقطة؟ الركاب المنزلقو الحناجر يبلعون ريقهم، ويمطّون أفواههم دلالة على تقييمهم لرحلة القطار»، «للسيدة تشيسك نتوءات على خديها بالقرب من فمها، وقد تشكل معظمها من خلال خديها المجوّفين بسبب آلام الجوع والولادة والسفر والتمثيل، ومن خلال العضلات المرهقة التي كان عليها أن تطوّرها لتتلاءم مع حركات ممثلة بحجمها، لها في الأصل فم ثقيل، وعندما كانت شولاميك تفك لها شعرها الذي يغطي وجهها، كان وجهها يبدو وكأنه ينتمي إلى العصر الغابر. إن لها جسداً قويّ العظام ومتماسكاً. مشيتها تبدو سهلة وأكثر احتفالية لأنها تعوّدت أن ترفع ذراعيها وتمدهما، وأن تحركهما ببطء. وعندما غنّت النشيد القومي اليهودي على وجه الخصوص، فإنها هزت وركها الكبيرة بلطف، وحرّكت ذراعيها بموازاة وركها المنحنية إلى الأعلى والى الأسفل، بيدين مكوّرتين وكأنها تلعب كرة الطائرة ببطء». «منذ أمد طويل وأنا أشكو أنني دائم المرض، وإن لم يكن لديّ مرض محدد»، «خرافة: إذا شرب المرء من كأس غير ممتلئة، تدخل الأرواح الشريرة إلى جسده»، «الكل زائفون»، «كتبت هذا في حمّى كراهيتي لأبي»، «منذ مدة طويلة، أعيش متعة التخيّل لسكين تدور في قلبي»، «كانت السيدة تشيسك جميلة يوم أمس، الجمال الطبيعي ليدين صغيرتين، لأصابع رقيقة، وسواعد مدوّرة، تصل حدّ الكمال، لدرجة أن البصر غير المعتاد على العري لا يفكر بأجزاء الجسد الأخرى، أما وجهها الذي يضيء بعضه ضوء مصباح الغاز، فينقسم إلى موجتين: والجزء القليل غير الصافي من البشرة، يحوم على الزاوية اليمنى لفمها، أما فمها فينفتح وينغلق بنعومة، كما في شكوى الأطفال: حركة إلى الأعلى، حركة إلى الأسفل في الأقواس المشكّلة برقّة... ...».
«أرغب في عزلة تخلو من التفكير، أكون فيها وجهاً لوجه مع نفسي».. «أتخيّل دائماً سكيناً عريضة لجزّار خنازير، تدخل فيّ من الجنب على نحو سريع، وبانتظام، وتقطعني على شكل شرائح رقيقة جداً غالباً ما تتطاير مثل معجون الحلاقة جراء سرعة العمل»... «نفور من المسخ».. «لا أنزوي عن الناس لأنني أريد أن أعيش بهدوء، بل لأنني أريد أن أهلك بهدوء» «أنا شخص عليل»، «عاجز عن كتابة سطر واحد».. «عاجز عن الحياة مع الناس، وعن الحديث معهم. منغمس في ذاتي، متبلّد، عاجز عن التفكير. خائف وليس عندي ما أقوله لأحد على الإطلاق»، «كيف أستطيع أن أصنع قصة مناسبة من شذرات متفرّقة؟»، «ما هي القواسم المشتركة بيني وبين اليهود؟ انه لا يكاد يوجد قواسم مشتركة بيني وبين ذاتي، ويتوجب عليَّ أن أقف في الزاوية سعيداً لأنني أستطيع التنفّس».
÷ فرانتس كافكا: مناخ
أخيراً ماذا يعني، وبعد قراءة يوميات كافكا، ومسرحياته، وقصصه ورواياته، ماذا يعني أنه، كما نرى إليه، مناخ؟
حياة قصيرة، ذات متوترة ومرعوبة، جسد مريض. حين نقول: كافكا مناخ، نرمي إلى أن هذا الكاتب أشاع في جيله والأجيال التالية حساسيات من غموض وحيرة وخوف. هو أبو الكتابة المترددة السوداء. مجرد اسمه، كما يقول عنه الإنكليزي «جي. بي. بريستلي»: «يدل على الحيرة وعدم الفهم والصفات التي تتوارد إلى الذهن من كتاباته، هي الخوف والعجز والبشاعة».
انتشرت طقوسه الكتابية في العالم. وكتبت سامية صادق سعد كتاباً عنه بعنوان «هل ينبغي إحراق كافكا؟» رامية إلى طرح ما أثير حول الهوية الدينية العرقية لكافكا. فقد كان يهودياً بالوراثة. والسؤال: هل كان صهيونياً وينبغي إحراقه؟
يتساءل في إحدى يومياته المكتوبة العام 1912: «ما الذي يربطني أنا باليهود أو اليهودية؟» هذا بالرغم من اهتمامه بالمسرحيات اليهودية وصداقته للممثل اليهودي إسحاق ليفي الذي هداه إلى قراءة الآداب والفنون اليهودية.
كافكا، فكرياً وعصابياً، موزّع بين شوبنهاور الفيلسوف والمركيز دي ساد. فمنذ صباه، كان شوبنهاور الأساس الفلسفي لتكوينه. يذكر في يومياته إعجابه بغوته، وغوته على ما نعلم، كان معجباً بالإسلام. ولكنه أيضاً أحب المركيز دي ساد الذي سماه القديس الحقيقي لزماننا. لناحية هيئته الجسمانية: وجهه، شعره، عينيه، ملامحه، حركاته.. فقد كان أبلغ من وصفه صديقه يانوتس الذي قال في وصفه: «كان شعره بنياً وممشطاً إلى الوراء، وكان أنفه واضح البروز، وعيناه رماديتان مع زرقة خفيفة، فوقهما جبهة عريضة. وكانت ترتسم على وجهه على الدوام، ابتسامة حزينة وشجيّة.
وكان وجهه الشاحب يتلوّن بالسمرة. وكان كافكا كثيراً ما يستعين في كلامه، بأعضاء جسمه ووجهه، وإذا استطاع أن يكتفي بحركة من حركات تلك الأعضاء عن الإجابة بلسانه، فعل».
وكان كافكا بسيطاً، خجولاً، فكأنه يقول لمن يحدثه: أرجوك إني أقل كثيراً مما تتظنّ. وإنك تستطيع أن تسدي إليّ خدمة كبيرة إذا تجاهلتني.
كتابات كافكا كانت على علاقة حميمة بحياته الجسدية والنفسية. فقد تعذّب كثيراً، وعذابه كان ناجماً عن توتر علاقته بوالده الذي كان يكرهه، وعن جسده المسلول. ولكن أكثره كان نابعاً من تلف غامض كان ينهشه باستمرار، فهو دائم الإحساس بأنه مطارد.
مهووس ومهجوس بالكتابة. الحياة عنده هي من أجل الكتابة. والكتابة من شدة ما هي صعبة تكاد تكون مستحيلة. نادراً ما كان يرضى على شيء.. ليس من الآخرين الذين يتعامل معهم بذات نقدية حادة وساخرة، بل من ذاته هو وكتاباته. يذكر خلال كتابته لقصة «الحكم» 1913، أن كتابته كانت نتيجة «الجرح العميق والقلق الشديد اللذين أخذ منهما الرعب القاتل الذي حلّ به في تلك الليلة».
طفولته كانت مضطهدة ومهددة ومهملة. وقد أحب في حياته عدداً من النساء، ذكرهنّ في يومياته، لكن أهم علاقة له كانت بفيليس. حبه لها كان مضطرباً. لم تكن تشكل علاقة الحب له ملجأ آمناً بمقدار ما هي علاقة قلق وخوف من الزواج.. لأنه لم يكن مطمئناً لذاته.. هل يقدر على أن يقدم لفيليس حياةً مستقرّة وهو غير مستقرّ؟ لقد خطبها، ثم انفصل عنها، فتزوجت سواه. بكل الأحوال، نراه يردد في الكثير من يومياته، أنه لا يعيش إلا من أجل الكتابة.. وأن كل أمر أو حب أو علاقة أو عمل، خارج الكتابة، مسألة تعيق الكتابة وهو يرفضها. هذا علماً بأن الكتابة بذاتها، بالنسبة إليه، أمر شديد التعقيد والخصوصية والصعوبة. إنه واقع في وسواس كبير اسمه الكتابة... وأساس وسواسه عدم رضاه عن كل ما يكتب. إذن: هو لا يرغب في الحياة والعلاقات إلا من أجل الكتب. وهو في وضع مَنْ تستعصي عليه الكتابة لحدود المرض والهاجس.. فخيّل إليه أنه خاسر للحياة والكتابة في وقت واحد.
فرانتس كافكا شخصية درامية عجيبة. شعرية خائفة، كابوسية ومغرية... انه مناخ ترك بصماته على عصر بكامله من عصور الحداثة.
محمد علي شمس الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد