«بوريس باسترناك» عاش حياته في مساومة مع الديكتاتورية

10-09-2012

«بوريس باسترناك» عاش حياته في مساومة مع الديكتاتورية

كانوا سبعة، مع بداية القرن العشرين. سبعة شعراء، جعلوا من روسيا حقل تجارب شعرية استثنائية: أخماتوفا، تسفيتاييفا، ماياكوفسكي، بلوك، يسينين، ماندلشتام وباسترناك. كان العصر الذهبي للشعر الروسي، لكنه أيضاً كان عصر الدماء. إذ عرف الشعراء الستة الأوائل منهم مصائر تراجيدية، انتهت بقتلهم أو بانتحارهم، بينما نجا السابع، في آخر لحظة، ليحيا بقية عمره في ظلّ الرعب الستاليني.
هذا ما يجده الكاتب الروسي ديميتري بيكوف، في السيرة الضخمة التي كتبها عن حياة الشاعر الراحل بوريس باسترناك، والصادرة مؤخراً في ترجمة فرنسية عن منشورات «فايار» بعنوان «بوريس باسترناك»، إذ يقول إن حائز نوبل للآداب (1958) نجا بجلده من الغولاغ، «ليحيا فيما بعد حياة موزعة بين المقاومة والمساومة مع النظام».
«سيرة» ضخمة (1050 صفحة) اعتبرتها الصحافة الفرنسية التي تناولتها، بأنها تشكل «رائعة» سيرية، إذ إن المؤلف يمزج فيها ما بين تحليل عمل باسترناك الأدبي، ليظهر فرادة غنائيته، كما يطلعنا بدقة على الأحداث التاريخية التي عاش وسطها «هذا الكاتب الذي لم يرغب يوماً في التعاطي بالشأن السياسي، لكنه وجد نفسه مضطراً لمحاربتها». وهنا كانت نقطة التحول في حياته، إذ كان «يمكن العيش والكتابة والنشر تحت نظام دكتاتوري من دون أن يدخل في ميثاق أو حلف معه»؟
مثله مثل سائر معاصريه، تحالف باسترناك، بحماسة، مع الثورة الذي اعتبرها «عملاً جراحياً رائعاً»، قبل أن يعود ويسقط في الأوهام، حين وجد أن البلاشفة أسروا المثال الشيوعي وشوّهوه وحوّلوه عن خطه الحقيقي. من هنا، وجد أيضاً أن على الشاعر أن يضطلع بدور: عليه أن يتحدث باسم كل الذين لم يعطوا الحق في الكلام، الذين يعانون بصمت «داخل سلاسل اللغة العادية». بهذا المعنى أتى إلى حد كبير ديوانه الأول «شقيقتي الحياة» (العام 1922) الذي أحاله شهيراً وهو في الثانية والثلاثين من العمر.
لكن أن تكون شهيراً في الاتحاد السوفياتي تلك اللحظة، فمعناه أن تتعرّض للكثير من المخاطر. في العام 1934، وبعد توقيف ماندلشتام الذي كتب عدداً من الأبيات الساخرة ضد ستالين الذي كان لا يزال «يراعي» الكتّاب اتصل هذا الأخير بباسترناك هاتفياً. ووفق السيرة، لا بدّ من أن نجد أنها من أكثر المكالمات الهاتفية «سوريالية»، إذا جاز القول.
سأل ستالين: «قل لي، هل أن ماندلشتام صديقك»؟ لو أجاب باسترناك بنعم، لكان شريكاً في «الجرم» ولو قال لا، فهذه خيانة للصداقة. فما كان عليه إلا أن حلّل العلاقات الإنسانية الصعبة بين الكتّاب. لكن ستالين، أصرّ قائلاً: «أنا، لو كان عندي أصدقاء، لفعلت المستحيل من أجل إنقاذهم». كان ستالين «يدمّر» خصومه نفسياً، كي يسيطر عليهم، من هنا، لم يستطع باسترناك، بعد أن أحسّ بهذا أن يكتب لفترة سنة كاملة. لينتسب بعدها إلى اتحاد الكتّاب السوفيات الذي مثله في مؤتمر المعاداة للفاشية العام 1935 في باريس. وكأن باسترناك أصبح في تلك الفترة «من رفاق الدرب»، ليوقع أيضاً العديد من البيانات التي لم تكن لتشرفه. بيد أن مؤلف السيرة لا يحاكم كاتبه المفضل، إذ يفند الضغوط التي كانت تجبره على المساومة، مع النظام، كي يحفظ حياته و«إن شاغب قليلاً»، لكنها مشاغبات لم تكن تستدعي اعتقاله.
ربما كان يوفر ذلك كله، للانتهاء من «الدكتور زيفاغو»، التي نجد فيها صعود الثورة وانحدارها لتشكل صرخة كبيرة سمعها العالم بأسره، حتى وإن أخذ البعض على أبطاله أنهم يشكلون أفكاراً أكثر مما يشكلون كائنات من لحم ودم. ومع ذلك، تبقى صورة لارا بطلته، صورة عن روسيا بكل ما حملته من تناقضات في تلك الفترة. كتاب جلب لباسترناك جائزة نوبل، لكنه أيضاً كان مرغماً على «رفضها»، بعد اعتباره كخائن وعدوّ، ليطرد من اتحاد الكتّاب ويعيش سنواته الأخيرة في عزلة بعيداً عن العاصمة.

(عن «لونوفيل اوبسرفاتور»)
إسكندر حبش- السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...