«ثلاث نساء قديرات» لماري نداي الفائزة بغونكور هذا العام

17-11-2009

«ثلاث نساء قديرات» لماري نداي الفائزة بغونكور هذا العام

كنا أشرنا في حينه، إلى فوز رواية «ثلاث نساء قديرات» (منشورات غاليمار) لماري نداي بجائزة «غونكور» لهذا العام. هنا مقالة عن هذه الرواية.
منذ البداية، تقف الروائيـة ماري نداي بين فضاءين: بـين الهامش والــقمة، إذ منذ أن نشرت كتابها الأول، العام 1985، وكانت بعد في السابعة عشرة من عمرها، عند منشورات مينـوي، بعنوان «فيما يخص المستقبل الزاهر»، وهي تعرف النجاح، وما الروايات اللاحقة، إلا هذا التأكيد على المكانة التي وصلت إليها، ومع ذلك، كانت ترفض أن تعتبر وجها اجتماعيا، بل فضلت الابتعاد عن المجتمع الأدبي، متفرغة على الكتابة، التي وصلت بها، إلى مستوى خاص بها، أي ما جعلها صاحبة أسلوب حاضر، على أقصى الدرجات.
هذه المكانة المتفردة، تبدو جلية وواضحة في روايتها الأخيرة «ثلاث نساء قديرات» التي تتحدث عن ثلاث شخصيات هي: نورا، المحامية، التي تقوم برحلة إلى إفريقيا كي تزور والدها – الذي تبغضه وتخشاه في الوقت عينه – بعد سنوات طويلة من الفراق والابتعاد؛ ورودي ديسكاس، أستاذ سابق في السنغال، أعفي من منصبه بسبب فضيحة أصابته، فعاد إلى فرنسا مع ابنه جبريل وزوجته فانتا، التي كانت مُدرّسة بدورها، إلا أنها لم تجد مكانا في التعليم لتشغله، بسبب جنسيتها الأجنبية. أما الشخصية الثالثة، فهي خادي ديمبا، أرملة شابة، لا أطفال لديــها، طردتها عائلة زوجها من المنزل، لتجبرها على الرحيل إلى فرنسا لتعمل هناك من أجل أن ترسل المال إلى بلادها، إلا أنها تصطدم بالنسق الفاسد الذي كان يتبعه «المهربون».
ما يربط بين هذه «القصص» الثلاث المتعاقبة هو هذه «الجسور» الحكائية، التي تمتدّ بين الواحدة والأخرى، في بعض الأحيان، أكثر من كونه رابطا عميقا في الوحدة الموضوعية. فالخـيوط المختلفة التي تنسجها ماري نداي، تــصف كلها، بقوة ودقة هذا التأرجح الوجـودي كما أزمات الهوية التي تعاني منها شخصيات روايتها، وهي الشخصـيات التي تتواجه مع انزياحها مع محيطها العــادي والمألوف. من هنا يبدو الأمر مختزلا جدا فيما لو قصرنا موضوعة هذه الأزمة في الحديث عن العلاقات ما بين فرنسا وإفريقيا. صحيح أن نص نداي يقارب مشــكلات هذه العلائق ويروي عنها، وبخاصة في القصة الثالثة، قصة خادي، التي تبدو أوضح على هذا المستوى، بيد أن الكاتبة تنحو أيضا في روايتها إلى مواجهة مشكلات أخرى، لعل أبرزها مشكلة المرأة – (على الرغم من أن القصة الثانية، قصة تلاحق مسارات رجل، هو زوج فانتا، ما يعطي للكتاب قوة روائية ناجحة إلى درجة كبيرة) – ومشكلة العائلة، التي لا تبدو سؤالا جديدا وطارئا على العالم الروائي عند ماري نداي، إذ عالجته في العديد من رواياتها الأخرى، لكنه سؤال يعود من جديد إذ تطرحه بقوة، على الرغم من أن فكرة العائلة هنا، وبشكل مفارق، لم تعد تشكل هذا المكان المألوف والمعروف، القريب، بل تصبح (العائلة) مكان الغربة التي تنبثق بقوة وعنف: أمام ذلك لم نعد نعرف لا من هو الأب ولا من هو الابن ولا الزوجة ولا يظهرون لنا إلا بعد لأي، أي تظهر «العائلة» وكأنها بمثابة بنية متفارقة وفاصلة وضاغطة.
نساء عصافير
تكمن موهبة ماري نداي في الكتابة عبر هذه القدرة على تأسيس هذا التململ العميق والمراوغ الذي يخلخل العلامات والتقديمات والمراجع. إذ ما بين «المونولوغات» الذاتية والداخلية وما بين التركيز الكليّ، نجد الصوت الراوي وهو يتابع ويلاحق «انفجارات» الروح وتشظيها مثلما يلاحق العواطف التي تصيب هذه الشخصيات، في أسلوب دقيق، «تعزيمي» في اغلب الأحيان، ناحيا إلى الشتيمة والسُباب» (ما يجعلنا نفكر بالمرحلة «الهندية» عند مارغريت دوراس وبخاصة في كتابيها «انخطاف لول ف شتاين» و«نائب القنصل»).
من قرأ كتبا سابقة لنداي، لا بد أن يجد كم أن الكاتبة لا تزال مخلصة لأسلوبها، إذ لا تتردد الروائية في أن تضع أحيانا، بين ثنايا النص، تلك اللمسات الساحرة، المعتمة، الفانتازية. ما يشكل ذلك، في النهاية، هذا العالم «المرتجف» باستمرار، حيث كل شيء، كل حيوان، يصبح ذا معنى ودلالة، يصبح فيضا سحريا، أمرا كاشفا عن كائن آخر أو عن حالة مخالفة، من هنا نفهم ما تكتبه نداي عن الأشجار وبخاصة العصافير التي تهيمن فوق مستوى النص والكتابة.
بمعنى آخر، نستطيع أن نصف هاته النسوة بأنهن «نساء – عصافير»، إذ أن هذه النساء الثلاث القديرات يحلقن، يمتلكن اندفاعهن، ينفصلن عن الثقل العائلي والاجتماعي والسياسي (من هنا تبدو الاستعارة هنا قوية كما أنها رمزية وأدبية). في ذلك كله تكمن هذه «القدرة» التي نجدها في عنوان الكتاب: قدرة هذه النساء على الاختيار، على تأكيد ذواتهن بأنهن كائنات حرة، على الرغم من «السلاسل» التي تأسرهن وتبقيهن في أمكنتهن. كل ذلك، ليـعدن ويجـدن أنفسهن «خارج أي تناول، بمــنأى عن هذه الإنسانية الثابتة» (ص 314). إذا نحن أمام قدرة متناقضة ظاهريا، لكنها قدرة على الرغم من كل شــيء، من تستطيع هذه التلميحات إلى روتبوف – الموجودة في القصة الثانية – أن تضيء بعض أفكار هذه الرواية: فروتبوف، الشاعر، حين كان يغني بؤسه وألمه العميق (الفقر، المرض، الانطواء، الإقصاء..) يعود ليجد عبر صوته هنا، هذه الرغبة في تحدي العالم، هذه الرغبة في إيجاد تفرد مطلق، في إيجاد إنسانية تصر على أن تقول نفسها وعلى أن تظهر نفسها من خلال عبارتها المتفردة.
تتبع نورا وفانتا وخــاندي المــسار عينه: تحويل ضعــفهن وانزعاجـهن إلى قوة وتأكيد للــذات، من هــنا، إذا بدا لنا أن ماري نداي تشك في ان تجد تحريرا سياسيا واجتماعـيا لهذه النـساء فإنها هنا، تعطيهن إمكانية أن يبدعن حرية داخلية فردية، بل لنقل راحة ضمير قدير ومهيمن.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...