«درع الفرات»: فصول «التتريك» الممنهج مستمرّة
لم يكن تاريخ الرابع والعشرين من آب 2016 (انطلقت فيه عملية درع الفرات) تاريخاً عاديّاً في تاريخ الحرب السوريّة، لكنّه في الوقت نفسه ليس سوى امتداد للانخراط التركي في الأزمة السوريّة منذ بواكيرها، مروراً بتحولها التدريجي إلى حرب عسكريّة، وصولاً إلى مشهدها المعقّد الرّاهن.
وفي سبيل فهم أوضحٍ لمشهد الاحتلال التركي الجديد الآخذ في الترسّخ شمالاً، ينبغي توسيعُ العدسة لتشمل الصورة السياسات التي اتبعتها تركيا في التعامل مع السوريين الذين فرّوا إليها من جحيم الحرب، وتمركز جزء كبير منهم في أراضٍ سوريّة في الأساس. (لواء إسكندرون). وبالتوازي مع تحويل السوريين إلى ورقة ابتزاز للاتحاد الأوروبي، حرصت أنقرة على توفير معاملة مختلفة إلى حدّ ما عمّا يلقاه السوري في بقية دول الجوار، بما يضمن تحويل تركيا إلى «جنة» في نظر كل من يقارن بينها وبين الأردن أو لبنان. والواقع أن هذا التفصيل قد يُعدّ إيجابيّاً بالنسبة إلى ضحايا تهجير الحرب، لكنّ التفاصيل كفيلةٌ بتظهير «الشياطين» الساكنة فيها في ما يخصّ مستقبل التركيبة السكانية في سوريا في الدرجة الأولى. وخلافاً لبقية دول الجوار، لم تُعامل أنقرة السوريين بوصفهم «زائرين مؤقّتين» قد يغادرُ معظمهم متى تغيّر الظرف، بل سعت إلى التأثير في البُنية الجوهريّة للفرد السوري، لا سيّما في سن الطفولة والمراهقة. أوضحُ مظاهر هذا التأثير تمثّلت في التعليم الذي أُخضع معظم الأطفال السوريين له في «مدارس» تستلهمُ واحدةً من أيديولوجيتين أساسيّتين: الأولى تُشرف عليها «منظمات ومؤسسات» تابعة لجماعة «الإخوان المسلمين» وتكرّس فكر «الجماعة»، أما الثانية فيُشرف عليها ويموّلها التيار الوهابي السعودي. وإذا كانت البذور «الأيديولوجيّة» التي جرى (ويستمر) غرسها في أذهان الأطفال السوريين في تركيا بحاجة إلى زمنٍ لتظهير آثارها المباشرة، فإن الأمر يختلف لدى البحث في وجه آخر من وجوه السياسة التركية على هذا الصعيد، وهو «التتريك». ورغم أنّ «اندماج» اللاجئ في أي مجتمع يحلّ فيه هو شرطٌ لازم من شروط لجوئه، غير أنّ الأمر يختلف في الحالة التركيّة، لسبب جوهريّ تكفّلت «درع الفرات» في التعبير عنه. ولا يحتاج الأمر إلى جهدٍ كبير لملاحظة الجهد التركي الكبير لاستثمار الوقت في تكريس الاحتلال الجديد وعدم اقتصاره على تمركز قوّات عسكريّة. وتكاد تركيّا تنفرد عن كلّ ما عداها من الدول التي دخلت الحرب بكون علمها لم يرفرف فوق نقاط عسكريّة وأمنيّة فحسب، بل امتدّ إلى مؤسسات ذات طابع مدني خدمي (مشافٍ، مدارس، بلديات...). ولا يقتصر الأمر على العلم بما يمثّله من «رمزيّة»، بل يتعدّاه إلى العمل الحثيث على إعادة تسمية شوارع وساحات. وشهدت مدينة جرابلس أواخر العام الماضي افتتاح مدرسة ابتدائية يرفرف فوقها العلم التركي إلى جوار «علم الثورة»، واحتلّت صور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صدارة المشهد في حفل الافتتاح. وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في تشرين الثاني الماضي بأنباء إغلاق مشفى جرابلس «بأمر من الوالي التركي». ومنذ احتلال جرابلس، تتعامل ولاية غازي عينتاب معها كجزء جديد تمّ إلحاقه بها، وتتولّى تسيير أمورها الإداريّة والخدميّة، كذلك تحضر الليرة التركيّة بوصفها العملة الرسميّة المتداولة في المدينة، علاوةً على تداولها إلى جانب عملات أخرى في بقية مناطق «درع الفرات». ويبدو جليّاً أن جرابلس تمثّل «بروفة تتريك» لن يطول الوقت قبل العمل على تحويلها إلى نموذج يُحتذى في مناطق أخرى، مثل مارع والباب. وتشير معلومات متقاطعة حصلنا عليها ، عبر مصادر متنوّعة، إلى «قيام تركيّا بتسهيل نقل عائلات تركستانيّة (من الأويغور) إلى بعض القرى والبدء بتوطينهم هناك». ولا يُعدّ استثمار تركيا للعامل العرقي جديداً في الحرب السوريّة، حيث عملت منذ وقت مبكر من عمر الحرب على استقطاب التركمان السوريين وتنظيمهم في «ألوية وكتائب». وعلاوة على ذلك، شكّل الأويغور «إضافة» مهمّة في مشهد المجموعات المسلّحة، بدءاً من عام 2014 .
«حوار كلّس» أداة عسكريّة لـ«التتريك»
لم يُتّخذ قرار بدء عملية «درع الفرات» بين عشيّة وضحاها. كانت أنقرة قد استوفت على الأرض كل وسائل التمهيد لبدء الاحتلال المباشر عبر مراحل عدّة، تُوّجت بتشكيل «غرفة عمليات حوار كلّس» في نيسان 2016. وبالتوازي مع الاستعدادات العسكريّة، اشتغلت أنقرة بعناية على توفير «الغطاء السياسي» اللازم، وحصلت على «ضوء أخضر» من موسكو كجزء من تفاهمات غامضة تُعتبر واحدةً من أكثر أسرار الحرب السوريّة مفتاحيّة. واعتمدت «حوار كلّس» في قوامها الأساسي على مجموعات سبق لها أن تلقّت دعماً أميركيّاً كبيراً (تدريباً وتسليحاً)، سواء في إطار «غرفة عمليات الموك» أو عبر برنامج «المعارضة السوريّة المفحوصة» (Vetted Syrian Opposition والمعروفة اختصاراً بـVSO). وعلاوةً على مكوّناتها الأساسيّة، عملت «حوار كلّس» على استقطاب أفراد وبقايا مجموعات متفرقة كانت قد تلقّت دعماً أميركيّاً سابقاً، مثل «جبهة ثوار سوريا» و«حركة حزم». وخاضت «الغرفة» بين نيسان وآب معارك تمهيديّة، قبل أن تلتحق بالقوات التركيّة الغازية منذ بدء «درع الفرات». ومن المظاهر اللافتة أن موازين القوى داخل «غرفة عمليات حوار كلّس» قد شهدت تغييرات متتالية خلال الشهور الماضية. ومن أبرز تلك التغييرات يأتي صعود نجم «لواء سمرقند» (ثاني أكبر مدن أوزبكستان، مع الأخذ في الاعتبار ما تمثله التسمية من إحالة تاريخيّة رمزية) الذي كان أوّل الأمر مجرّد «كتيبة» تابعة لـ«فرقة الحمزة». وبالتوازي مع استقطابه مزيداً من المقاتلين والدعم التسليحي، حرص «لواء سمرقند» على تكريس «هوية بصرية جديدة» له، من مظاهرها تغيير «رايته» لتأخذ شكل العلم التركي كإطار عام، وتتمركز داخله تسمية «اللواء» باللغتين التركية والعربيّة، علاوةً على عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وتتحدّث معلومات لم يتمّ التثبّت من دقّتها بصورة قاطعة عن بدء «اللواء» باستقبال مقاتلين من أوزبكستان أخيراً.
صهيب عنجريني
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد