«قبضايات» آخر زمن اقتحموا الحارة الدمشقيّة
تلتقي مسلسلات الحارة الشامية في بنيتها الدرامية وحبكتها الحكائية مع ما كان يسرده الحكواتي في المقهى قبل قرن من اليوم. وهي بهذا المعنى، تُخاطب ذائقة شعبية، لم تشتبك ثقافياً مع تطورات العصر ومتطلباته، بل بقيت في دائرة مغلقة، تعتمد خطاباً رمزياً بسيطاً. فالحكواتي الذي كان يستحضر شخصياته من التراث الشعبي ويضعها في لجّة الحدث لإيصال عبرة رمزية ما، ها هو يعود بزيّ حديث بعدما أودع أبطاله بطون الكتب واستبدلها بشخصيات أخرى، لا تتمتع بمرجعيات بطولية في ذاكرة المتلقي. وإذا بعنترة وعبلة والزير سالم وجساس، يخلون أماكنهم في الحكاية لمصلحة «الفوّال» و«المنجّد» و«الحلّاق» و«الداية» وأجير المقهى، والمختار والزعيم في أحداث عادية، تتمحور حول حبكة بسيطة، كأن يرهن «محمود الفوّال» شاربيه لقاء مبلغ من المال، فتتحوّل بضع شعرات ضائعة إلى رمز لضياع الكرامة في الحارة بأكملها، وذلك بعدما تعهّد الزعيم إعادة الحق السليب والشرف الضائع إلى صاحبه، على اعتبار أن كرامته من كرامة الفوّال. وها هي الحارة تستنفرُ في النسخة الأخيرة من «باب الحارة»، إثر تطليق الحلّاق (عباس النوري) زوجته (صباح الجزائري) سرّاً. وبانكشاف السّر الحربي الخطير، تعيش هذه الحارة زلزالاً يطيح كرامة الحلّاق وموقعه الاجتماعي...
بدأت هذه الموجة من المسلسلات في مطلع التسعينيات بعمل تحت عنوان «أيام شامية»، وقد لقي حفاوة كبيرة أثناء عرضه، لتبدأ، بعدها، موجة أخرى من هذه الأعمال مثل «ليالي الصالحية» و«الخوالي» و«باب الحارة» و«جرن الشاويش». جميع هذه المسلسلات، عدا الأخير الذي أخرجه هشام شربتجي، حملت توقيع المخرج بسام الملا الذي بدا متخصصاً بإعادة الاعتبار إلى البيئة الشامية. وإذا به يختزل الحياة إلى مفردات وعناصر فلكلورية، بين جدران حارة شعبية معزولة عن سياقها التاريخي والاجتماعي، مكتفيةً بذاتها. والأهمّ من ذلك أنها غير معنية بما يدور خارج أسوارها، رغم التحوّلات التي فرضها مطلع القرن العشرين على المنطقة، وهي تحوّلات جذرية على أي حال، إذ كانت المنطقة على وشك أن تطوي الحقبة العثمانية الطويلة، وتتطلع إلى الاستقلال والحرية.
لكن هل كان الأمر مجرّد مصادفة أن تواكب هذه الأعمال في الفترة عينها، موجة مضادة هي الفانتازيا التاريخية التي تعهدها نجدت أنزور في سلسلة أعمال، حملت عناوين مثل «الجوارح» و«الكواسر» و«البواسل»؟
هكذا ألغت هذه الأعمال بنوعيها البيئي والفانتازي أي ملمح حداثي يتطلّع إليه المشاهد، بل أغرقته في خريطة افتراضية وقدرية، تنفي عنه مكابداته المعاصرة وتقصيه عن مشكلاته الراهنة، لتخترع تاريخاً غائماً ووهمياً، سواء باستعادة لحظة فولكلورية مشبَعة بالحنين إلى ماضٍ سعيد (كما في أعمال الملا)، أو زمن وهمي معلّق في فضاء جغرافي مبهم، (كما لدى أنزور). حصار الذاكرة واكب موجة عولمة وانهيارات سياسية، سعت إلى إطاحة الذاكرة الجمعية لمصلحة هويات ممزقة، تشجّع على صعود تيارات سلفية ومذهبية. وإذا بالمشاهد العربي في مهبّ ريح عاتية، أكملتها الرقابات التلفزيونية بمنع إضاءة الواقع المباشر الذي يعيشه كائن اليوم في ظلّ فضائيات الفتاوى التي حاصرت، من جهتها، هبوب ريح الحداثة والتنوير. لنعد إذاً إلى موائد الأجداد في الحارات المغلقة، ولنبنِ سوراً منيعاً في مواجهة اللحظة الحداثية بتطريز بيئة متحفية، ولنحتفِ بفضائلها وقيمها الأخلاقية وخصوصيتها المعمارية بأحدث أجهزة الديجتال، ونرفع القبعة عالياً من أجل «ديبو الحلاق» و«محمود الفواّل» و«أبو مصطفى الزعيم»...
في النسخة الأخيرة من «باب الحارة»، نموذج حيوي لتصدير التخلّف الاجتماعي وتعزيز تقاليد آفلة لم تعد موجودة في الأصل، في شوارع اليوم. كما أنها لا تعبّر بدقة عن شوارع الأمس، ما دامت الشخصيات التي تقترحها هذه الدراما غير قابلة للتطور: فهي إما شخصيات بيضاء وطهرانية، أو سوداء وشريرة، ولا مكان بينها للون الرمادي على الإطلاق. ولعلّ أخطر ما تقترحه هذه الدراما، هو إغلاق الحارة في وجه أي عابر من خارجها، لأن الغريب شرير بالضرورة، وسوف ينسف وجوده أسباب التكافل والتضامن. وكأن من يأتي من حارة مجاورة، لا يعيش الظروف عينها.
«ماكيت» باب الحارة ينبذ منذ اللحظة الأولى تطور الزمن، لذلك لا نصطدم في أزقة الحارة برجل متعلم، أو شاب يحمل جريدة، مع العلم أن الأحداث تجري في مرحلة الانتداب الفرنسي. وكأن «أبو شهاب»، قبضاي الحارة، هو الرمز الوحيد للمقاومة بغياب تام لمعنى الدولة، كي يعقد صفقات أسلحة ويخوض حروباً تصل إلى فلسطين، فيما تغرق الحارة بقيم القرن التاسع عشر!
لا نلتقي أيضاً بتطلعات جيل جديد، أو مهن بدأت تفرض نفسها على الحارة إلا بشكل عرضي وعابر. وكأن الزمن يقف عند أسباب طلاق الحلّاق زوجته، واندحار كرامته التي لن يستعيدها إلا بعدما يلتحق بالثوّار.
الباب الخشبي الثقيل هو رمز الحفاظ على قيم الحارة وأمنها واستقرارها، وهو الذي يمنع تسلل الأشرار إليها. ولعل الخطاب المضمر للعمل برمته، هو ضرورة إقصاء الآخر ونبذه، ففي ذلك تستعيد الحارة ألقها وبهجتها ولياليها الملاح. وفي حال تزعزُع الباب عن مكانه، ستفقد الحارة مكانتها، وستطيحها ريحُ الغرباء إلى الأبد. لهذه الأسباب، ربما، وجد المشاهد العادي مراياه وتطلعاته وطمأنينته، بعدما حاصرته العواصف من الجهات الأربع، وإلا فما تفسير الإقبال المنقطع النظير لعمل مثل «باب الحارة»، من بيروت إلى رام الله؟ هل لأنه يعزز هوية فولكلورية مُشتهاة، أم لأنه يخاطب عقلاً مستقرّاً، لا يرغب في مواجهة هويته الممزقة اليوم، بين أكثر من خندق؟
خليل صويلح
المصدر: الاخبار
إضافة تعليق جديد