«كش دبان».. لغة بسيطة وحقيقية لتحصيل القص الساخر

12-02-2011

«كش دبان».. لغة بسيطة وحقيقية لتحصيل القص الساخر

من ثيمات الكتابة الساخرة في المشهد الأدبي السوري، إنها غالباً تتناوب بين انقطاع وحضور،. وكان ذلك على مدى أكثر من نصف قرن، سواء كان هذا التناوب في تجربة الكتابة السورية بشكلٍ عام، أو في تجربة كاتب واحد، و..حتى في العمل الواحد للكاتب نفسه، فيما لدى النساء الكاتبات، بالكاد نجد أي مثل هذا الحضور للكتابة الساخرة، والكتابة الساخرة هي المشمولة بفن الفكاهة على مايراها شوقي ضيف فالفكاهة أعمّ من السخرية، لأنها تشمل السخرية والتهكم والهجاء والدعابة والمزاح والنوادر والنكت والقفشات والتورية والتصوير الساخر، ويحدد السخرية أنها أرقى نوع من أنواع الفكاهة. 
وعلى مدى مايقرب من كامل العقد الأخير من الألفية الثالثة، كادت الساحة الأدبية تفتقر تماماً للكتابة الساخرة، فقد بدت وكأنها حُسمت لمصلحة الكوميديا السوداء، فالقارئ الذي كان يستغرق في الضحك، يشعر اليوم بالانقباض بعد قراءة كتّاب اليوم الذين تقطر المرارة من أقلامهم « شيء ما يشبه الكربلائية العامة، انتفت خلالها حتى البسمة». ‏
أسوق هذه المقدمة، بمناسبة صدور المجموعة القصصية «كش دبان» للقاصة هيفاء عجيب، التي تبعث بعض الأمل في عودة القص الساخر إلى ساحة الكتابة السورية بعد انقطاع، وهنا قد يبدو أمل مضاعف وقد جاء على أجنحة الكتابة النسوية التي قليلاً ماقاربت السرد الساخر، فرغم ازدحام المجموعة بالمواقف التي تقصم ظهر إنسان هذا اليوم، غير أن جرعة «أرقى أنواع الفكاهة» كما سمى السخرية شوقي ضيف تتوفر بسويات عالية في هذه المجموعة، وفيها تتناول عجيب ليس مطلق إنسان، ولكنه غالباً «المرأة» التي تُشير إليه من خلالها، وليست المسألة «قضية نسوية» كم درجت عليه كتابة النساء أبداً، ولكنه الجور على تنوعه الاجتماعي والاقتصادي، الذي حصر من لاحيلة لهم من البشر في خانة العزلة والقهر، والذي أدى إلى ارتباك هذا الإنسان في العلاقة بمحيطه، فبقي في دائرة الالتباس، والكاتبة عجيب تلاحق «ضعف» هؤلاء الناس وعجزهم، وتنقل ذلك على طريقة الرسم الكاركاتوري بالكلمات، كتابة – وأظن هنا مكمن قوتها أو لعبتها القصصية- بسيطة وخفيفة، وحقيقية كونها أكثر قرباً من عالم هؤلاء البشر وعلى طريقتهم في فهم الحياة، وعيشها، أو التعايش معها، وهكذا شرائح من ناس المجتمع، بالتأكيد ليس بمقدورهم سوى «كش الدبان» – كما تعنون المجموعة- وهل ننتظر منهم كش ملوك، أو حتى حاجب على بابهم، فقد استطاعت عجيب زحزحة مساحة التعبير الأدبي نحو الاتساع النسبي، واستبعاد «الأفكار الكبيرة» مشغولة بالهم الوجودي ذو الجذور اليومية، اليومي المعاد إنتاجه تخييلياً بعد القبض على جوهره وبطانته الداخلية، بما يقارب الفانتازيا أحياناً. ‏

تبتعد خلال ذلك - ماأمكنها- عن فكرة العمق كمعادل إنشائي لتقويم ما وراء السطور وقياساته، وليس بمعنى السطحية، بل تعوض عن ذلك بإجادة الحكاية أو القصة الساخرة من منطق خاص حاكم لتسلسلها السردي، وتوفر هذا التسلسل المنسجم الذي كان لافتاً في قصص هذه الكاتبة، فعجيب لا تزال تلاحق هذا «الكائن المرتبك» في عيشه ونومه، بمصورة ليست ساخرة وحسب، بل أحياناً تكون من منظور يقترب من الضحك، رغم مايشوب ذلك من مرارة، ترصد ذلك التدين المنافق، أو الفحولة الكاذبة – كما في قصة غنم غنم وغيرها- تطرح كل ذلك دون أن تشعر المتلقي بالتكلف، الذي كان عيب أغلب «السابقين» ممن كتبوا القصة الساخرة، لاسيما طريقتهم باللعب السمج بالألفاظ الذي وصل حد «التعجيق» أو«الاستظراف السخيف» ‏

في قصصها تطرح عجيب مواقف لاتخطر على بال – كما في قصتها فرسان المؤتمر- لاسيما في خواتيم قصصها، التي تُنهيها بالدهشة، وذلك بالمفارقة التي تتحصل عليها في النهاية، والتي لم نكن لنتوقعها، أو لتخطر لنا على بال، مع أن البداية لم تكن لتأتي بمثل هذه النتيجة التي غالباً، تأتي صادمة، وبهذا الأسلوب تقدم عجيب حسنتين معاً، الإصرار على طرح «الخيبة»، وتحصل على السخرية، دون الانجرار إلى الكوميديا الصرفة، قصص أقرب إلى اللوحات التي تقدم الأمرين معاً بكل تجلٍ «الملهاة». ‏

تسوق عجيب مفرداتها منقاة، وكأنها ترسم بالريشة لوحاتها «بعد دقائق وجدت نفسي منشغلة عن صخب الرفاق الساكن، وسكون الصحراء الصاخب» من قصة (فرسان المؤتمر) وفي ذات القصة أيضاً عندما تتابع هيئة الصبي عيد الذي يجر حمار السائحين: «بمتابعة قدمي عيد اللتين هرب نصفهما الأمامي من مقدمة شحاطته البلاستيكية، ليضربا الرمل الساخن مع كل خطوة..» في هذه القصة تجسد الفقر ليس بالشعارات، وإنما تصوره «كائناً» مرعباً يمشي على قدمين، يتوفر لها ذلك باستخدامها لمواضيع قصصها مفردات بسيطة مطعّمة ببعض العامية، أو العامية الفصيحة، ولعل أهم ما فعلته هو ابتعادها عن الإنشاء لصالح اللغة القصصية - الحدث، والابتعاد عن النجوى، والحوارات الداخلية لإبراز لغة مفعمة بالحيوية والأحداث. ‏

ثمة قصة أخرى، تستخدم لها عجيب عنواناً لافتاً عبارة عن تاريخ(7/7/2007) إذ رغم كل الإيحاءات والمدلولات الذي يوحي به الرقم (7) في المثيولوجيا، وكذلك في الأديان وغيرها، ورغم زخمه في اليوم والشهر والسنة، وفيما بعد في الساعة والدقائق، كل هذه الوفرة للرقم وضعتها القاصة في خدمة أرقى أنواع الفكاهة التي هي السخرية، لاسيما أن الذي تناولته بالتهكم كان قد وظف هو الآخر هذه «الوفرة» لأجل غرض «تافه» إلى حدٍّ كبير، وهو حملة إعلانية لافتتاح منتجع تثلج في بلد يئن من شح المطر، ومن شح الموارد على أنواعها تلك جوانب الضعف التي وجدتها للمهجو، ومن ثم كانت موضوعاً ساخراً لها، فضخمتها وبالغت في إظهار عيوب ذلك، فيما يشبه الرسم الساخر، وذلك من خلال انتظار الحدث الذي وعدت به الحملة الإعلانية، وبعد ذلك تصوير أماني الناس واختلاف التكهنات خلف انتظار ذلك الحدث، ثم خيبة الأمل من كل تراكم تلك «السباعيات» والتي كان حاصل جمعها هو الصفر. ‏

في قصتها (على قارعة الطريق) تسد أنغاص أحلام اليقظة كل السبل لالتقاط الأفكار التي قالوا عنها: إنها مبذولة على الأرصفة والطرقات، أحلام تصير كالملاحف التي تنسدل كالبراقع على الوجوه، ومن ثم يكون ذلك العماء الذي لا يلوي إلا على العجز، كما ستبرز قصص لافتة أخرى في هذه المجموعة منها على سبيل المثال: وليمة الصباح، الورطة البضاء، وغيرها الكثير مما أفعمتها الكاتبة بالسخرية تلك التي توسلت أمرين معاً «الضحك والنقمة». ‏

تروي هيفاء عجيب قصصها بضمير «الأنا» الأنثى الحاضر بفاعلية في تفاصيل كل أحداث القصص، تصور حركات وتحركات «شركائها» من باقي الشخصيات، أشكالهم، مواقفهم، وعلاقتهم بما يحدث، وأحاديثهم الجانبية، مآسيهم.. فيما يشبه «النفس» الروائي، وهذا الحضور للشخصيات يأتي متبايناً، مرةً تفسح لأحدهم لأن يكون محور القصة، أو الشخصية المحورية فيها، ومرة تالية تكون الساردة هي تلك الشخصية المحورية..

علي الراعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...