«كونشيرتو» أدونيس
ما إن أعلن أدونيس أخيراً في حوار صحافي، رغبته في التوقف عن نشر الشعر حتى فاجأ قراءه بقصيدة جديدة عنوانها «كونشيرتو القدس» نشرتها مجلة «أخبار الأدب» في القاهرة قبيل صدورها في كتاب. هل تكون هذه القصيدة الملحمية آخر ما يودّ أدونيس نشره شعرياً أم أنه سيتراجع عن قراره هذا، نزولاً عند رغبته الشخصية أو نزقه؟ ربما أدونيس نفسه لا يملك جواباً على هذا السؤال، هو الكائن الذي يعجز عن العيش خارج الشعر، إبداعاً ونظرية.
فاجأ أدونيس حقاً قراءه بهذه القصيدة التي كتبها في صيغة «الكونشيرتو» الشعري الذي تتعدد فيه الأصوات، لكنه شاءه في ثمانية مقاطع عوض الثلاثة كما يقتضي هذا الضرب من الفن الموسيقي. وبدا واضحاً لجوء أدونيس الى «التركيب» الدرامي والبنية «الكورسية» الخفية من خلال الأصوات التي ركّز عليها وانطلق منها ليشيد هذا «الكونشيرتو». وفي وسع القارئ أن يتخيل كورساً إغريقياً ينشد هذه القصيدة، متبادلاً الأصوات والمقاطع من خلال البناء الموسيقي المتعالي والمنخفض، والمتدرّج في أحيان. ومع أن القصيدة مكتوبة نثراً في ما يشبه الشعر الحر فهي تفيض بالموسيقى، الموسيقى الخارجية أو الصوتية والموسيقى الداخلية التي تضمرها. لا أدري لماذا لم أستطع أن اقرأ هذه القصيدة إلا بصفتها «كونشيرتو» يقوم على موضوعة «القدس» التي تتخطى هنا تخوم الجغرافيا والسياسة لتحلّق في فضاء ميتافيزيقي ورمزي وحلمي. إنها القدس كما يراها أدونيس أو كما يرنو إليها، ارض الأديان السماوية الثلاثة، أرض المأساة، أرض التاريخ الملتبس والكلمة. إنها القدس التي «تتدلى من عنق السماء»، القدس التي «تسيجها أهداب الملائكة» كما يقول، لكنها أيضاً مدينة «الثمر المرّ» و«ينابيع الدم»...
يبني أدونيس قصيدته على أرض التاريخ والواقع معاً. التاريخ يحضر عبر فعل «المناصصة» (أو التناصّ) الذي يتيح للشاعر أن يسترجع نصوصاً قديمة كتبها شعراء وعلماء في القدس وعنها، فيدخلها في نسيج قصيدته لا بكونها «شواهد» وإنما كمقطوعات ترتكز إليها رؤيته ورؤياه. ولا تغدو هذه المقطوعات التي قطفها من عيون التراث الإسلامي والتوراتي والمسيحي، غريبة البتة عن جو القصيدة أو سياقها التاريخي والميتافيزيقي، بل هي تزيد من رحابتها وترسّخ جذورها الضاربة في عمق التراث. هكذا يحضر ابن عباس وأبو هريرة وكعب وأبو ذرّ وجابر ومجير الدين الحنبلي وسواهم من أعلام الإسلام، كما يحضر حزقيال وحبقوق وسفر اللاويين من التوراة ولا تغيب أيضاً «درب الآلام» التي اجتازها المسيح...
لم يصطنع أدونيس هذا «المشهد» الرؤيوي الإبراهيمي حتى وإن بدا ثقافياً أو متكئاً على دعائم الثقافة الإبراهيمية، فالشاعر ذو خبرة ومراس في استعادة الأفكار الكبيرة وفي معاودة صهرها أو صوغها لتغدو جزءاً من النسيج الشعري، جزءاً أصيلاً وليس دخيلاً. ولعلّ فرادة أدونيس تتجلى في هذا «الكونشيرتو» الذي لا يمكن أحداً سواه أن يكتبه، هو شاعر المعرفة والفكر.
سعى أدونيس في هذه القصيدة الى تحديث الموضوعة التراثية أولاً عبر البناء الكونشيرتي، ثم عبر استحضار الواقع اليومي حتى في تفاصيله الصغيرة التي جعلها أقرب الى الترددات الإيقاعية. ها هو يُدخل في صلب هذه القصيدة مفردات يومية مثل: إسعاف، مطافئ، صواريخ، عصابات، خطف، إرهاب، توتر وسواها. ولا يتوانى عن إيراد مقطع من رواية جيمس جويس «عوليس» (مع اسم مترجمه صلاح نيازي)، وقد يفاجئ هذا المقطع القارئ وإن وردت فيه كلمة «أورشليم». ومن أجمل ما ساق أدونيس من نصوص وشذرات قديمة قول لابن عباس: «مَن أراد أن ينظر الى بقعة من بقاع الجنة فلينظر الى بيت المقدس»، وقول لأبي هريرة: «المياه العذبة والرياح اللواقح تخرج من تحت بيت المقدس». ناهيك عن مقطع طويل هو غاية في الروعة كتبه مجير الدين الحنبلي.
إنها جغرافيا القدس، الروحية، الصوفية والميتافيزيقية، تنطلق من جغرافيا القدس الأرضية التي سمّى الشاعر شوارعها وأزقتها وأمكنتها الواقعية والتاريخية وأبراجها وأبوابها ومساجدها وكنائسها، وراح يبني الى جوارهما شذراته الشعرية وتأملاته: باب المغاربة، حائط البراق، بيت هتسلام، باب العمود، أرض الصبرة، برج اللقلق، عين سلوان، قبة الصخرة، طريق الآلام وسواها... إنها الجغرافيا التي يمتزج فيها التاريخ والوجدان والذاكرة والمخيلة.
كتب أدونيس قصيدته في مرحلة تحتاج القدس فيها الى مثل هذه «المواقف» الكبيرة و«المخاطبات». وقد تحيّن الشاعر مأساة القدس وأهلها ليعاود كتابة التاريخ برؤية إشراقية ووجْد وألم. لم يخيل الى أدونيس لحظة أنه شاعر فلسطيني يكتب معاناته على غرار الشعراء الفلسطينيين، ولم يلجأ الى أي نبرة احتجاج أو رثاء بل بدا شاعراً وشاعراً فقط، في المعنى الكينوني للشعر وراح يكتب قصيدته وكأنه يؤلف مقطوعة موسيقية، يرتفع فيها صوت التاريخ وصوت الماوراء وصوت الضحية المضرّجة بالدم.
عبده وازن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد