«ليلى والذئب»... الوحش في عيون الحسناء ليس متوحشاً!!

20-07-2008

«ليلى والذئب»... الوحش في عيون الحسناء ليس متوحشاً!!

ربما كانت الشريطة الحمراء المشكولة في أقصى يمين البروشور عتبة ملائمة لقراءة العرض الذي قدمته مؤخراً فرقة مسرح الدائرة على خشبة القباني، ربما كانت هذه الشريطة إنجازاً بصرياً ماكراً للعنوان الذي تهافت عليه الكثيرون من مخرجي مسرح الطفل في سورية، لكن هذه الشريطة المفقودة كوردة في جسد كرتوني مربع«أقصد البروشور» ماهي إلا انتخاب جمالي للأناقة، بمعنى أن تكون ليلى والذئب في الزاوية اليسارية السفلى كمركز بصري متوازن ودقيق، هذا بالمجمل يدفع بهذا العرض إلى حصد جوائز الأوسكار، فيما لوكانت القوة الضوئية للشريطة الحمراء وببث سبعة آلاف أنغسترون شرارة أصيلة ونادرة من السجادة الحمراء التي يمدونها لنجوم مهرجان كان السينمائي.

وبالفعل لو كان للمسرح السوري كرنفال مسرحي لتوزيع جوائز الأوسكار، لنال«ليلى والذئب» المأخوذ عن قصة«الفارس الذهبي» وإخراج«باسم عيسى» جميع الجوائز بلا استثناء، ولتمكن«سيف أبو أسعد» و«راما عيسى» أن يأخذا جائزة أفضل ممثل وممثلة عن ذلك اللعب الحر والبريء الذي قدماه كوسيط نوعي للممثل المسرحي العابق بالفضاء والمتماهي مع كل الحلول الإخراجية، دون استرسال في جمل طويلة مسكنة ومتفاصحة، إنها اللعبة التي أوجزت كل شيء محولة المتن التقليدي للذئب وليلاه من البلاهة الاعتباطية لقصص الجدّات الساهمات أمام أسرّة أحفادهن، إلى تشريح هادئ للوحشي الجذاب، الرجل كبديل لصورة القبيح النبيل، والحسناء كموضوع للجمال الطفولي المغمس باللذة واللطف، لكن على تقطيع لمساحات الغابة، بوصفها المكان المفتوح على احتمالات لقاء أكثر من ليلى، بأكثر من ذئب، وبالتالي يصبح مقعد الحديقة اليومي بمثابة لقاء عابر وعادي، بين فتاة تدعى بالمصادفة ‏ «ليلى»وشاب يدعى بالمصادفة«دياب».... 
 هذه الثورية ليست لتمثيل الأدوار الموزعة قبل أن تنشأ الطرق المتشعبة في الغابة كل هذا الكم من الصدف والأسئلة والحوارات بين ليلى الذائبة في ذئبها وليلاه، وبين شاب وفتاة يتجاذبان أطراف الحديث، بل هي صيغة عالية لبطولة الإيهام وسلطنته على الخشبة، جعل كل شيء يبدو منطقياً، حتى في الحوارات المتخيلة بين«سيف وراما» باعتبار أن«الذئب» هو مجرد قناع على«سيف» أن يعيش حياته الداخلية المعطلة كشكل يدعو للهجاء، والفاعلة كقالب جمالي يحيل علاقة الرجل بالمرأة إلى سادية ملطفة ومهذبة بحكم الاجتماعي والذيني والأخلاقي. ‏

المحاكاة المستترة بين القبح الخشن الرومانسي، وبين النعومة الضارية في استعطافها ورهافة تكوينها البيولوجي، ومن المفيد كما يبدو الحفاظ على هذين النقيضين، بما يعزز لعن المثلية وطردها كشبح يؤدي للتشابه بين الذئاب وليلاهن المربيات في منازل لا يخرجن منها إلا لأداء واجباتهن الاجتماعية، للتعلم والسباحة وشراء الألبسة ومطاردة الموضة، بينما تطلق«الذئاب» وحيدة في أكمات المدن وحدائقها، هنا نستطيع أن نرى مشاهد كثيفة لكنها خاطفة من اللقاءات العابرة، وما سيزيد هذه اللهفة وطاقتها على تحين فرص الصيد، هي الحيوانية الخلاقة التي تناضل لبقاء النوع البشري، وخلوده، فليلى الذاهبة لتوها إلى مقهى الأنترنت في صورة طبق الأصل عن ليلى الذاهبة لعند جدتها، ليلى المحملة بوصايا أمها: أن احذري ذئاب الأرصفة، دماثتهم المقنعة، قطع السكاكر، مربى الكرز، دمه المغلي عن نار الشهوة والاشتهاء، دم الكرز الذي يدبق على الثياب للأبد، ولا تنسي«و الحديث للأم» أكثر الطرق اختصاراً إلى البيت ، بشرط أن تظلي جميلة وبيضاء وغير متعرقة، فواحة إلى درجة أن تحركي تلك الحاسة القديمة في أنوف رجال«ذئاب» الغابة، الغابة بوصفها منتزهاً مؤقت عليك أن لاتطيلي المكوث على مقاعده المؤقتة..! ‏

هكذا يدبر«عيسى» لمناظر متتالية من الغابة، فتصبح ليلى كأليس التي تعبر إلى الطرف الآخر من المرآة، ويصير الذئب معاصراً، مع أنه اشتقاق أصيل عن الوحش في رواية تعود إلى القرن الثاني عشر، وربما لن نغالي إذا اعتبرنا الذئب وليلاه صورة بعيدة عن«أيروس» إله الحب الذي كان يختفي عندما تحاول محبوبته ‏

«بسيخي» أن تلمحه، وما يخبرنها به أخواتها عن أن«أيروس» رجل قبيح ومتوحش، فتصر على رؤيته وهو نائم في الظلام وتشعل فانوساً من الزيت لإلقاء نظرة على زوجها النائم، فتراه لأول مرة شاباً نبيلاً، وسيم الوجه، وبهي الطلعة. 
 ‏ إن هذه المقايسة ليست مستمرة على شكل حكاية في العرض، مع أنها ثيمة يبني عليها العرض مقولته ويحاول في كل مرة ملامسة الغامض في الحكاية القديمة. ‏

لذلك ما الذي يفسر هذه النزعة المازوخية عند«ليلى» التي تتخلى دفعة واحدة عن وصايا أمها؟. ما الذي يدفعها للقول بأنها أحبت في«دياب» حيونته؟ ثم ما الذي يفسر تلك التنمرات المضحكةلـ«دياب ـ سيف» لعناق ليلى ووصالها. ‏

على مستوى آخر لم تكن المادة الفيلمية المصورة والتوثيقية مجرد فضاء بصري مجاور ولا علاقة له بما يحدث، فما فعلته«سينوغرافيا عمر حمارنة وباسم عيسى» هو تصوير الشخصيات بأحجامها الحقيقية وجعلها بمثابة ممثل على الخشبة، إذاً فالمادة المصورة ليست بعيدة وهناك، إنها هنا تتحدث إلى الشخصيات، تحاورها، فشخصية الأم تعود«راما» وتلعبها في المادة المصورة بالشغل على كاركتر الأم وبتنصيبها وجهاً لوجه عبر«الشاشة» لتكون كمعادل وهي ـ وحاضر على الخشبة في آن معاً. ‏

هكذا عبر لقطات قريبة للشخصيات، تصبح بكامل هيبتها على المسرح، كما يمكننا مشاهدة«ليلى ودياب» عبر الشاشة في أحد الصالونات الوثيرة، على أريكة خضراء ومحايدة، بعيداً عن عراء الغابة وحياديتها المزمنة، يمكننا رؤية الجدة«لعبتها راما» والصياد«الأب ـ سيف» وجهاً لوجه مع«دياب» فتصوب الصورة بندقيتها وبأحجام طبيعية نحو الحبيب الذي لعب بعقل البنت وأطعمها كرزاً دبق ثيابها وثيابه دفعة واحدة. ‏

هذا بالطبع راكم بين أكثر من فضاء، وجعل المتخيل مجسداً بكل واقعيته وفجاجته، وأحال مشاهد العرض إلى مستويات عديدة من التلقي، فاللعب مستمر على مدار العرض، والمزاوجة تكاد تكون شبه تامة بين الصورة المصورة والممثل بكامل حضوره على الخشبة؛ يرافق ذلك مادة وثائقية لسيل من القبل السينمائية بالأبيض والأسود، رجال يلتهمون أفواه حبيباتهن، في اللحظة المسرحية التي تقع فيها ليلى في أحضان ذئبها، اللحظة التي ينهمر فيها الكرز بدمائه القانية على جسميهما خارقين بذلك وصايا الأم التي كانت في يوم من الأيام عبارة عن ليلى تائهة في الغابة، وتحفظ عن ظهر قلب وصايا«الجدة» باعتبارها الآكلة الأولى للكرز المحرم...! 
 لهذا لم يبق«سيف أبو أسعد» على القناع الذي صممته«زين مخلوف» فالحياة التي كان من المفترض أن يحياها خلفه، هي الآن مخادعة مستمرة للنوع، فهل أكون الرجل ذاته الذي يعمل في تنسيق الزهور؟، أم أنني سأتبع الإرشادات الدقيقة والحاسمة للوصفة؟، الوصفة التي تتطلب توحيش اللطف وإخضاعه إلى حيونته، باعتبار هذه ‏

«الحيونة» من قبيل الحيوية التي تتمتع بها الذئاب وقطعانها الهائلة، ولأن ليلى المسحورة بالحوشية الأولى للرجل المستذئب هي أيضاً عاشقة ومعشوقة في آن معاً. وهي تعترف أن مقاربة النمادج القديمة بالجديدة أنها أسيرة هذا الوحش الذي لاحقها يوماً ما في الغابة، معترضاً طريقها أيما اعتراض. وللعودة إلى الشريطة الحمراء التي توحي ببطاقة دعوة لحفل زفاف«ليلى والذئب» سنرى أنها كانت عتبة ملائمة للتصور، أقله الحسي الذي لعب عليه العرض بحياء متجنباً المجاهرة بالأيروتيكي، ومتحاشياً كل تجارب سينما البورنوغرافيا، بحكم الرقيب وحارس ‏

البوابة، لكنه في الوقت ذاته قدم مقاربة مسلية لتمايز الرجل على المرأة، وبمستويات بصرية متنوعة، محاولاً تفضيل الفرجة والغرابة على تعميق وجدانيات الشخصية ، التي باتت منفلتة من إحالات النص الأصلي، ولاسيما بتعددية الأدوار التي أداها كل من«راما وسيف» حيث لا درامية تتصاعد نحو ذروة واحدة، إلا من خلال لملمة الفوضى التي تثيرها المشاهد واللوحات المتعاقبة، هذا طبعاً في شكلانية ‏

«الغروتيسك» الذي اختاره«عيسى» كحل جامع ـ مانع يستطيع من خلاله الإبقاء عن مرح الممثل وقفزاته من وإلى الدور الأساسي، وبأقنعة متورمة نحو الحكاية الأمثولة، الحكاية بوصفها يومية وغير منتهية وتحتاج إلى قراءات متعددة وغير منتهية أيضاً، طالما أن الذئب مازال في الغابة، منتظراً ليلاه التي وبالفطرة ستسعد لرؤيته ومحياه وهو يلعب كرة القدم مع أقرانه من الذئاب، أو في أسوأ الأحوال يعود بعد غيبة يوم زائراً بكل قوته: أين طعام الغداء ياليلى؟! ‏

سامر محمد اسماعيل

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...