«مريم» باسل الخطيب.. تجاور بصري لماضٍ مهزوم وحاضر دموي
يراهن المخرج باسل الخطيب في فيلمه الجديد «مريم» (يقدم حالياً في سينما سيتي بدمشق) على توليف ثلاثة أزمنة تلخصها سيرة ثلاث نساء حملن اسم «مريم»، تروي حياة كل واحدة منهن مرحلة من مراحل التاريخ السوري المعاصر، وذلك عبر تعشيق زمني متواصل بين خروج العثمانيين من البلاد عام 1918، وزمن هزيمة 1967 وانسحاب الجيش السوري من القنيطرة، وصولاً إلى اللحظة السورية الراهنة، حيث نجد للحرب الدائرة اليوم إحالات متعددة في الفيلم (إنتاج مشترك بين المؤسسة العامة للسينما وشركة جوى) لبلاد تقتفي جلجلة طويلة من الانكسارات المتواترة، يصوغها المخرج الفلسطيني وفق سيناريو كتبه بالتعاون مع تليد الخطيب لحكاية سينمائية تتدفق بحساسية بصرية عالية، مقارباً بين شخصيات فيلمه الذي امتد على مساحة ساعتين من الزمن؛ لخص خلالهما، صاحب «رسائل الحب والحرب»، أثر الهزيمة العربية وانعكاسها على ما يحدث في سوريا اليوم.
يهرب الفيلم، الذي حاز الجائزة الكبرى في مهرجان الداخلة بالمغرب، من الرقيب لينبش تاريخياً في خفايا العبث السوري المتصاعد، ليلعب المونتاج دوراً حاسماً في مفصلة الزمن السينمائي، مُحززاً الصورة إلى أحداث قرابة قرن من أزمة وطن يختلج على مقاصله المتعددة، فالجندي، عبد الله، (أدى الدور عابد فهد) تتعطل بندقيته في لحظة حاسمة من معركة الهزيمة، وذلك حين يحاول إنقاذ مريم (سلاف فواخرجي) من أيدي جنود العدوّ بعد اغتصابهم لها في ساحات القنيطرة 67، لكنه ينجح في إنقاذ ابنتها زينة (أدت الدور ريم علي) التي ستتبناها أسرة مسلمة في دمشق القديمة، لتتفرغ في شبابها لرعاية كبار السن، فيما تلقى مريم في 1918 (أدت دورها لمى الحكيم) مصيراً أكثر تراجيديةً عندما تحرق نفسها بعد رفضها الغناء في بيت نديم بك (أدى الدور أسعد فضة)، أحد إقطاعيي الساحل السوري، لنشاهد دماها الطينية تضمحل تحت أمطار جنازتها، بينما تُصر مريم في 2012 (أدت الدور ديمة قندلفت) على التمسك بموقفها الأخلاقي إزاء وضع أبيها لجدتها (صباح الجزائري) في دار للعجزة، مراهنةً على ذاكرة جدة تختزل وطناً لطالما رمى بالطفولة في أتون حرب أشباح وأنبياء وسماسرة، ففي المقترح الذي يقدمه صاحب «أنا القدس» مجابهة شجاعة تلطم الحاضر الدموي بهزائم الماضي وخيباته الجماعية.
تبدو كاميرا الخطيب منفلتة من كليشيهات وكوادر السينما السورية التي رسختها معظم تجارب القطاع العام، نحو أناقة بصرية لافتة خلت من أخطاء وعيوب تقنية في تصحيح الألوان وتصميم مشاهد المعارك وتدمير الأبنية الأثرية وإعادة صوغها غرافيكياً، محققاً معظم مشاهده على بعد أمتار قليلة من خطوط «فصل القوات» في الجولان السوري، فالكاميرا التي تطل على الراهن الدموي للبلاد عبر لقطات بانورامية للعاصمة، ملتقطةً أعمدة من دخان القصف والتفجيرات الراهنة، تعود لتدمج بذكاء بين مشهدية منفلتة من الرقيب ومشاهد انسحاب الجيش السوري من القنيطرة قبل اليوم الأخير لحرب حزيران؛ لنتوقف أمام مشهد جديد في تاريخ السينما السورية لفرس عربية تُنهضها سينما الخطيب من الوحل، مستلهمة وجودها في جسم الفيلم كفسحة أمل معطوف على اللحظة الساخنة من عمر السوريين. وقد وفق في تجاور تشكيلي بصري، حيث تجتاز سيارة من موديل السبعينيات جبال الساحل السوري تحت مطر متواصل. يكرس صاحب «نزار قباني» هذا التجاور طيلة أزمنة «مريماته» الثلاث، موظفاً إياه كخاتمة للفيلم، وكمستقبل يعيش فيه الجميع مرارات الماضي ممزوجاً بأوجاع الحاضر، ليحقق الفيلم الذي عُرض مؤخراً في مهرجان مدينة لاهاي الهولندية عتبة بصرية لافتة، ومقاربة جديدة افتتحها المخرج في فترات الفيلم الأولى بمقولة لوالده الشاعر الراحل يوسف الخطيب: «لقد خسرنا كل شيء ولم يتبقَّ لنا سوى الحب».
سامر محمد إسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد