«هكذا يمضي كل جسد» لبتلر: الطريق المشاكس وصولاً إلى الكتابة
من ناحية مبدئية، لا يمكن القول أن رواية «هكذا يمضي كل جسد» يمكنها أن تكون سيرة ذاتية للكاتب الإنكليزي صموئيل بتلر، ومع هذا، في القسم الأخير من الكتاب، لا شك في أن الذين عرفوا بتلر وسيرته، تختلط عليهم الأمور الى درجة أنهم يشعرون وكأن وصفه حياة إرنست، الشخصية المحورية في الرواية، هو كوصفه حياته الخاصة. وهم، بالتالي، إذ يصعب عليهم ربط الحكايات العائلية التي تستبق ذلك القسم الأخير بما هو معروف عن شباب بتلر وسيرته، يخلصون الى أن الكاتب إنما استعار من شخصيته الخاصة ليختم الرواية. مهما يكن من أمر، من الواضح أننا أمام «هكذا يمضي كل جسد»، قد لا نحس بأننا أمام رواية بقدر ما نحسنا أمام عمل فكري يستفيد من الحسّ الروائي، وقدرة الكاتب على استخدام ذلك الحسّ وتطويعه، لكي يتصدى لطهرانية الزمن الفكتوري وتزمته، الذي كتب الرواية في ظله، ولا سيما لفكرة تماسك العائلة وتسيّدها في حياة المرء انطلاقاً من إحدى الوصايا العشر: أكرم أباك وأمك!
> كانت تلك الوصية واحدة من الأسس التي يقوم عليها هدف التمسك بالبنيان العائلي المرصوص في الزمن الفكتوري في بريطانيا، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن هنا لم يفت الكتّاب، وبتلر في مقدمتهم في هذا السياق، أن جزءاً من مقارعتهم لتلك المنظومة الأخلاقية الخانقة، يمكن أن يتحقق من خلال نسف فكرة العائلة، ولو انطلقنا من سؤال بسيط: ولماذا علينا أن نكرم أبانا وأمنا؟ لماذا علينا أن نجعل من هذا الإكرام قاعدة سلوك لعل أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها كفيلة بإلغاء فرديتنا؟ ولأن بتلر جعل من هذا السؤال محور همه الفكراني في هذه الرواية، كان من الطبيعي أن تثير هذه الأخيرة لدى صدورها في العام 1903 ما يشبه الفضيحة. لكن المؤسف أن الكاتب لم يكن هناك، للتمتع بتلك الفضيحة، كما من المؤسف أن الملكة فكتوريا نفسها، والتي ضد تزمتها انطلقت الرواية، لم تكن هناك أيضاً. فصدور الرواية تأخر عن موت الاثنين. ومع هذا ظلت الفضيحة الأخلاقية فضيحة... لم تُنس الا بعد ذلك بسنوات، وربما في وقت كانت فيه الرواية نفسها قد نُسيت أيضاً!
> إذا كانت الرواية، بأسلوبها الحي ولغتها الساخرة الجزلة، تبدأ بأن تدخلنا في حياة مجموعة من الأفراد المنتمين الى أسرة واحدة، متبعة إياهم أباً عن جد وابناً عن أب. فإنها تتوقف بعد مراوغة عند واحد من أبناء العائلة، هو إرنست حفيد النجار جورج بونتيفكس الذي تجبره القواعد الأسرية على دراسة اللاهوت ليصبح قسيساً، ومن ثم يتزوج، لكنه يعود ويتحرر بعد أن تنفصم عرى ذلك الزواج قبل اكتماله. وحينها، بعد أن يجد إرنست نفسه، في نهاية الأمر، وحيداً، يحس صاحبنا أنه تحرر وقد آلى اليه جزء من ثروة ورثها عن أولئك الذين كانت الوصية تفرض عليه احترامهم، وبعد أن ترك سلك الكهنوت في الوقت نفسه، فيكرس بقية أيامه، وقد استعاد حرية كان يرى أنها من حقه، للأدب والموسيقى، تماماً هنا مثل حال صموئيل بتلر نفسه.
> لكن التفاصيل الباقية في سيرة إرنست لا تلتقي تماماً مع كل التفاصيل التي نعرفها عن حياة بتلر... ومع هذا، فإن هذا الأخير تبدأ حياته بالنسبة الينا هناك، في أصقاع نيوزيلندا، حين حدث له عند منتصف سنوات القرن قبل الفائت، أن قرأ بما يشبه الصدفة كتاب تشارلز دارون «أصل الأنواع» فأحسّ على الفور بأن حياته كلها انقلبت رأساً على عقب، وأنه هو الذي اختار تجارة الماشية عملاً له، ونيوزيلاندا مهجراً يبعد فيه عن عسف أهله وتعنتهم، وجد ضالته في صفحات ذلك الكتاب، لذلك سوف يختطّ منذ ذلك الحين طريقه ليصبح كاتباً. هو الذي كان تعليمه الابتدائي والثانوي يؤهله، أصلاً، ليصبح أسقفاً كما كان حال أبيه وجده من قبله، فثار على التعليم وعلى ذلك المصير لأنه منذ صباه يؤمن بالفكر الحر. وجد الفتى في «أصل الأنواع» ضالته، غير أنه بعد سنوات قليلة، وفي خضم ألوف الصفحات التي راح يخطّها لم يفته أن ينتفض على ذلك الكتاب. وعلى مؤلفه مشبعهما نقداً ونقضاً. ومن هنا ولدت أسطورة في الأدب الإنكليزي في القرن التاسع عشر، هي أسطورة صموئيل بتلر، الكاتب المتمرد حتى على نفسه. وعلى التقاليد الإنكليزية، وعلى الأفكار العلمية الراسخة، وعلى صرامة العهد الفكتوري، والذي أوصلته شكوكه وضروب تمرده لأن يؤكد، ذات يوم، في دراسة له أن مؤلف «الأوديسة» لا يمكن أن يكون إلا... امرأة. وجعلته يعيد الاعتبار لنظرة الناس الى سونيتات شكسبير!
> صموئيل بتلر الذي كان معادياً للملكة فكتوريا، كان من حظه أن يموت في الوقت الذي ماتت فيه تقريباً، كما كان حال عدوها الآخر أوسكار وايلد، لكأن الثلاثة أرادوا بموتهم معاً أن يعلنوا نهاية عصر بأكمله. فقد رحل بتلر عن عالمنا عام 1902 والزمن الحديث يطل على بداياته. وكان بتلر من مؤسسي ذلك الزمن على أي حال، ولو في مستوى الكتابة الإنكليزية وحدها. وكان واحداً من مؤسسي مذهب الرفض والتشكيك في تلك الكتابة. في كل ما فعله بتلر، وفي ما فكر فيه، كان العقل هو رائده الأول وطريقه الذهبي: كان في ذلك وريث القرن التاسع عشر، ولكن أيضاً فاتحة القرن العشرين. غير أن لا شيء في طفولته وصباه كان يشير الى ذلك في شكل مبكر، باستثناء نزعته التمردية التي جعلته يرفض «مهنة» آبائه حين قررت عائلته أن يصبح قسيساً، وهكذا كان في الرابعة والعشرين من عمره عام 1859 حين هاجر الى نيوزيلاندا بفضل ثروة صغيرة كان يملكها وانصرف الى تجارة الماشية. وهو منذ لقائه مع كتاب تشارلز داروين، بدأ يهمل تجارته بعد نجاح ساحق، ثم قرر أن يعود الى إنكلترا وقد أضحى مستقلاً من الناحية الاقتصادية. وفي إنكلترا، كرّس أيامه خلال المرحلة التالية للرسم والكتابة وللقراءة. كان يرسم كل شيء ويكتب في كافة المجالات، في الأدب كما في السياسة، في التربية كما في الدين. أما كتابه الأول الذي نشره في العام 1872 فكان أهم كتبه وعنوانه «لا مكان» - حمله العنوان بالإنكليزية مقلوبة الحروف - غير ان هذا «اللامكان» الوهمي الذي راح يصفه كان في الحقيقة بلده انكلترا، الذي استخدم تلك التورية لكي ينتقده وينتقد أخلاقياته، ويروي كيف أن الجريمة فيه تتحوّل الى مرض، والمرض الى جريمة، وكيف أن الدين يتحول الى نظام مصرفي والعكس بالعكس... الخ.
> لسنا في حاجة الى الإشارة، طبعاً، الى أن هذا الكتاب قد حقق من فوره نجاحاً كبيراً سرعان ما جعل اسم بتلر على كل شفة ولسان. غير أن بتلر لم يكتف، طبعاً، بذلك النجاح، اذ نراه خلال العقود الثلاثة التالية يكتب عشرات الكتب والمقالات، التي نشر معظمها خلال حياته، غير أن بعضها لم ينشر إلا بعد موته المفاجئ. وكتاباته شملت كل شيء ولا سيما المواد العلمية حيث نراه يخصّص أربعة أجزاء لبحوث بيولوجية عارض فيها نظرية داروين، انطلاقاً من مبدأ الوراثة الذي وجده أجدر بالاهتمام من مبدأ الانتخاب الطبيعي، ومن أهم كتبه في هذا المجال «الحياة ومجرى العادة» (1878)، «الصدفة والضرورة» (1886)...
> في مجال الأدب والفن، نشر بتلر دراسات عديدة أيضاً أبرزها كتابه «جبال الألب ومنغلقات بييمون».. إضافة الى انه ترجم الإلياذة والأوديسة الى الانكليزية، حيث إن ترجمته لهما ما زالت هي المعتمدة في الانكليزية حتى يومنا هذا. وترجمته للأوديسة جعلته يكرس لها دراسة تثبت أنها كتبت في صقلية وأن مؤلفتها هي الشاعرة نوزيكا! اضافة الى هذا كله، لم يفت صموئيل بتلر أن يلتفت الى الموسيقى، حيث نراه يؤلف عدة مقطوعات كانت شهرتها، على أي حال، عابرة، لأنها لم تقنع نقاد الموسيقى ولا الجمهور كثيراً، مثلها في هذا مثل لوحاته. مهما يكن، يبقى من بتلر حضوره الطاغي في زمنه، ولكنْ أيضاً كتابان هما الاشهر من بين كتبه، نشرا معاً بعد رحيله وهما «هكذا يمضي كل جسد» الذي تحدثنا عنه هنا، و «دفاتر الملاحظات» الذي يعتبر أشبه بوصية ويضم ملاحظات وأفكاراً مدهشة.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد