آخر أيام الرقص: الغرق في مسارب الحب والنساء

07-01-2012

آخر أيام الرقص: الغرق في مسارب الحب والنساء

بعد أن صال وجال طويلا في عوالم سيدة الجلالة "الصحافة"، انتبه –ربما- إلى أنه أضاع عمره في سراب اللحظات التي لا تصنع شيئا في عالم عربي لا صحافة فيه ولا حقيقة يمكن التوصل إليها، لذا ترك خلفه كل مجد اللحظات العابرة، وانزوى ملتحفا في عزلته ليكتب روايته، وليفرغ ذاكرة يدرك كل من احتك بها أنها تختزن جزءا من تاريخ عاصف بالتحولات والخيانات، وجزءا من حيوات بشر بعضهم مضى إلى حتفه، وبعضهم خان طريقه، وبعضهم التحفه النسيان.

انطلاقا مما سبق، تغدو رواية نبيل الملحم الصادرة حديثا عن داري روافد والجمل معا، تحت عنوان" آخر أيام الرقص" جزءا من سيرة ذاتية شخصية وأخرى جمعية، تستحضر أناسا نعرفهم في الحياة العامة السورية، وتقودهم إلى طاولة الكتابة حبا و مساءلة ونقدا، وانتحارا!
تقوم الرواية على ثنائيات متضادة، بين ذاكرة فتية تلتهم كل شيء، وذاكرة ممتلئة حد الألم، فتبحث عن شيء لتتكئ عليه، وتكمل حياتها بسلام، لتفاجئ أنها اتكأت على حب يداعب خريف العمر، ويوقظ جروح الماضي وخيباته التي تسطو على سطح علاقة فيها من الخيبات الكثير ومن الحب سطوعه وألقه ولوعته.

تبدأ أحداث الرواية، بفتاة شابة " سارة" تعيش وحيدة مع عمتها العانس، التي تصادر لها حياتها وتدقق في كل خصوصياتها، تحت ذريعة حماية الشرف، فتسعى بجوارحها للخروج من أسر عمتها، إلى أن تقع بحبّ "سليمان" الرجل الذي يوازي بعمره عمر والدها الذي فقدته سارة في سنّ مبكرة، لترى فيه الأب والحبيب، ولتبدأ قصة حبّ غريبة في توتّرها وصخبها وكسرها إيقاع المألوف من العلاقات، قصة حبّ بين ذاكرة فتية تتطلع لاكتشاف الحبّ والحياة يقودها نهمها لتجريب كل شيء، وبين ذاكرة أتخمت بالحياة، وليس لها سوى الماضي والتذكر والتهرب سبيلا لمواجهة اندفاعات الحبّ الشقية، لنجد أنفسنا أمام صراع مغلّف بحبّ محكوم بعلاقة متوترة بين حبّ أوّل لفتاة تريد امتلاك كل شيء، بكل ما يعنيه الحبّ الأوّل من اكتشاف وتملّك وغيرة قاتلة، وبين حبّ رجل له من العلاقات ما يجعله يعجز عن معرفة دروب أبنائه الذين تركهم نطفا في أرحام نساء عاشرهن في الفنادق ومحطات المترو وأقبية بيروت، نساء لم يتوقفن في ذاكرته أكثر من لحظة عابرة، ليجد فجأة نفسه أمام مراهقة في الحبّ تريده كله، ولا ترضى بـأقله، وهو الرجل العصيّ على الامتلاك، والخارج على الترويض، فتكون سارّة المنبّه الذي يوقظ ذاكرته، ليسائل حياته، عبر سؤال يلح عليه طويلا: من أنا ؟ لِمَ لمْ أتزوّج؟

وداوها بالتي كانت هي الداء:
وفي سياق بحثه عن إجابة، تسعفه للهرب من خيال سارة، يجد نفسه دائما في أحضان راما، في غرفتها التي يفاجئها بها في أي وقت، ليغوص في جسدها، على وقع اتصالات سارة التي تثقل هاتفه بالرنين، فيجد نفسه مناديا راما باسم سارة، لينهض قبل أن يكمل نشوته، ويهرب مرة أخرى…يهرب من سارة ومن ذاكرة راما التي تحاصره، لنجد أنفسنا أمام شخصية هاربة، تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، شيء أضاعته ولم يعد بإمكانها العثور عليه، فينعكس شعورها بالفقدان والوحدة على كل شيء، عدا عن أننا أمام شخصية تعاني ازدواجية هائلة، فهي تريد حبّ سارة الكامل وإخلاصها، وفي نفس الوقت هي تهرب من حصار سارة، وتلجأ إلى أحضان راما وغيرها، ثمة نوع من إيديولوجيا الرجولة (التي خصص لها جورج طرابيشي كتابا حمل عنوان أيدلوجيا الرجولة في الرواية العربية) التي تبيح لنفسها باسم قيم رجولة سائدة، ما لا تبيحه للحبيبة، بل نراها تعيش هاجس لحظة الخيانة قبل حدوثها، وتتنبأ بها، لتدفع الحبيبة من حيث لا تدري إلى خيانة حقيقية هذه المرة، فتزداد العلاقة التباسا وتوترا.

إذن نحن أمام شخصية، حرة ومقيدة، شكاكة ومتسامحة، ويبدو الشك واضحا من خلال مراقبته سارة التي بدأت دروسا في مدرسة الرقص، فإن تحدثت عن أستاذ الرقص، سألها سؤالا يشي بغيرته، وإن وقفت مع مدرس الجامعة رأى في نظرات المدرس شيء يقوده إلى الشك بسارة، وإن رقصت مع أحد في محترف عيسى الذي يجمع شخصيات الرواية، تشتعل فيه الغيرة ليهرب ويترك سارة بين عيون رجال تلتهم جسدها وتفترسه.

انتظار اليائسين:
في الرواية، ثمة انتظار ما تعيشه كل الشخصيات، انتظار لا أحد يعرف أنه يعيشه، ومن يعرف لا يعرف ماذا ينتظر، وكأن الحياة في سيرورتها ما هي إلا انتظار، يوقظنا منه حدث ما، بحجم انتحار "يحيى" الصحفي الذي يعيش حياة مأزومة، نتيجة سلسلة من التغيرات التي دخلت عالم الإعلام وجعلت من الصحفي مجرد بوق لأصحاب المال بعد تحول الوطن إلى شركة يتقاسمها التجار الذين يتنافسون على تمجيد أولياء نعمتهم، فيجد نفسه محاصرا بين ماضيه اليساري وبين لقمة خبزه التي تحاصره بها مديرة لا تفقه في الإعلام أكثر من فقهها بتدبير الشؤون الليلية لسادتها الجدد، ليجد نفسه أمام لازمة يكررها يوميا: سأقدم استقالتي غدا، وأنشر بيانا أفضح فيه أولاد الكلب! ليمر اليوم التالي ويتابع يومه كما سبقه، إلى أن تحصل سهرة الرقص التي ينهض فيها سميح الذي يعاني عرجا في قدمه، ليسبح في فضاء الرقص، محلقا مع سارة التي تفتك بقلب سليمان الشكاك، وبين نشوة تضيء عجز يحيى الذي ينتبه إلى ضعفه وهشاشته، فيحمل مثقبا ويضعه في قدمه، لتتحول حفلة الرقص إلى ما يشبه مأتما برسم التأجيل، الذي ينتظر انتحار يحيى الذي لن يطول، لنكتشف أن الشخصيات كلها تعاني يأسا مزمنا لا شفاء منه، يأسا لا يغيبه حضور الموت، ولا أغطية الفرح والرقص الخادعة، لتغدو هذه الشخصيات معادلا لوطن مهزوم، يستر عريه ويأسه تحت أقنعة متعددة ومتراكمة.

موت وخيانة!
في الطريق إلى دفن يحيى، يجد سليمان نفسه عاجزا عن متابعة الطريق خلف جثمان صديقه، فيقرر في لحظة مجنونة ترك سارة برفقة عيسى وأمل وسميح ليتابعوا طريقهم خلف الجثمان، وليذهب هو باتجاه ذاكرة أخرى، وسط احتجاجات سارة الباكية على تركه لها برفقة سميح الذي يتشهاها جسدا، ولن يتوانى عن قطف أنوثتها في لحظة ضعف تكشف عن خساسته حين يفتح هاتف سارة الذي يرن وهي في فراشه، حين يتصل بها سليمان ليدعه يسمع صوت شهقاتها في فراشه، وليغلي قلب سليمان بفعل غيرة تقوده إلى التفكير بقتلها، ليجد نفسه أمام راما سائلا إياها عن كيفية قتل جوزافين لزوجها، دون أن يعرف المحققين بذلك إلا من ثرثرتها هي!
وجوزافين هي صديقة راما التي قضت أجمل سنوات عمرها في السجن بتهمة الانتماء إلى حزب يساري محظور( أغلب الظن أنه رابطة العمل الشيوعي)، والتي تستحضر السجن معها في كل لحظة، لتغدو حياتها سجنا من نوع آخر، حيث تزورها صديقتها جوزافين، بشكل دائم في غرفتها المتواضعة، مما يجعل سليمان يهرب من ثرثرتها، ليعود إليها.

البحث عن الحب الأول واكتمال الدائرة:
ولأن راما كانت دوما تتساءل عن سر عودته الدائمة لها، وهو دوما يهجس بجرح من الماضي لم يندمل بعد، مما يجعل الطرفين يبوحان في لحظة صفاء، ويكشفان عن ماض جعل قلبيهما على طرفي نقيض، وحاضر جمع جسديهما بعد أن تفتت قلباهما بتجارب الحياة، ولم يعودا قادرين على الالتحام.
سيكشف سليمان لراما، أنه عشقها حد الجنون، حين كانت طالبة في كلية الهندسة، وأنه كان ينتظرها على أبواب الجامعة وفي مفارق الحارات التي تمشي بها، ليبدو أن الأمر فعل صدفة ما، ولكن راما لم تكن تعيره انتباه لأنها كانت غارقة بحبّ شاب نيجيري، كان يقيّد سليمان ويمنعه من الذهاب بعيدا في مجازفته، وحين أدرك سليمان أن حبه لراما ميئوس منه، هرب إلى آخر أصقاع الأرض، وعاشر نساء الفنادق ونساء الطبقات الراقية، عله ينسى، وحين لم يتمكن من النسيان، عاد ليجد راما في السجن.


وبدورها ستكتشف راما في السجن، أن سليمان الذي لم تكن تعيره أدنى انتباه خارجا، يحتل حيزا كبيرا من ذاكرتها، إلى درجة أنها تستدعيه ليساكنها زنزانتها برفقة جوزافين، لنصبح أمام حبّ معطوب غير قادر على الاستمرار بعد التقائهما من جديد بسبب الجروح العالقة في روحين عبثت بهما الأقدار، وليبقى سليمان يفتش في كل جسد عن روح راما التي لم يشف منها بعد.
هذه المكاشفة بين سليمان وراما، ستضيء لنا سرّ سليمان و قلقه الدائم وعدم استقراره، لنغدو أمام شخصية مجروحة عاطفيا وإنسانيا.

ورغم الشغف الذي يلف الرواية، ويجعل قارئها مفتونا بها حتى النهاية، إلا أنّ ثلاث قضايا تبدو أنها تعاني خللا ما، فمثلا يبدو انتحار يحيى غير مقنع روائيا، وكذلك خيانة سارة، رغم أن فعل الخيانة أدى فعله دراميا في كشف خبايا سليمان ونوازعه الداخلية للتفكير بقتل سارة، فإن خيانة سارة ونومها مع سميح لم تكن مقنعة، فنحن لم ندرك لم قامت بذلك، خاصة أنها لا تحبه وغير معجبة به، بل تكن له كرها دفينا، مما يجعل فعل الخيانة غير مبرر!
وكذلك الأمر بالنسبة للنهاية، التي تبدو أنها صادمة خاصة أن سارة بعد انتهاء دورتها في الرقص تقوم بدعوة كل الأصدقاء إلى مرسم عيسى، لترقص وحدها، ثم تشعل المرسم بمن فيه.

مهما يكن، فإن الأهم من ذلك كله، أن نبيل الملحم دخل نادي الرواية الذي نأمل ألا يبرحه كعادته في اللااستقرار في فضاء مكاني أو إبداعي، ولعل كتابته روايته الثالثة حتى الآن، تشي بأنه وجد مستقره بعد أن غادر منطلقه منذ عقود طويلة!

محمد ديبو

المصدر: الأوان

بعد أن صال وجال طويلا في عوالم سيدة الجلالة "الصحافة"، انتبه –ربما- إلى أنه أضاع عمره في سراب اللحظات التي لا تصنع شيئا في عالم عربي لا صحافة فيه ولا حقيقة يمكن التوصل إليها، لذا ترك خلفه كل مجد اللحظات العابرة، وانزوى ملتحفا في عزلته ليكتب روايته، وليفرغ ذاكرة يدرك كل من احتك بها أنها تختزن جزءا من تاريخ عاصف بالتحولات والخيانات، وجزءا من حيوات بشر بعضهم مضى إلى حتفه، وبعضهم خان طريقه، وبعضهم التحفه النسيان.


انطلاقا مما سبق، تغدو رواية نبيل الملحم الصادرة حديثا عن داري روافد والجمل معا، تحت عنوان" آخر أيام الرقص" جزءا من سيرة ذاتية شخصية وأخرى جمعية، تستحضر أناسا نعرفهم في الحياة العامة السورية، وتقودهم إلى طاولة الكتابة حبا و مساءلة ونقدا، وانتحارا!
تقوم الرواية على ثنائيات متضادة، بين ذاكرة فتية تلتهم كل شيء، وذاكرة ممتلئة حد الألم، فتبحث عن شيء لتتكئ عليه، وتكمل حياتها بسلام، لتفاجئ أنها اتكأت على حب يداعب خريف العمر، ويوقظ جروح الماضي وخيباته التي تسطو على سطح علاقة فيها من الخيبات الكثير ومن الحب سطوعه وألقه ولوعته.


تبدأ أحداث الرواية، بفتاة شابة " سارة" تعيش وحيدة مع عمتها العانس، التي تصادر لها حياتها وتدقق في كل خصوصياتها، تحت ذريعة حماية الشرف، فتسعى بجوارحها للخروج من أسر عمتها، إلى أن تقع بحبّ "سليمان" الرجل الذي يوازي بعمره عمر والدها الذي فقدته سارة في سنّ مبكرة، لترى فيه الأب والحبيب، ولتبدأ قصة حبّ غريبة في توتّرها وصخبها وكسرها إيقاع المألوف من العلاقات، قصة حبّ بين ذاكرة فتية تتطلع لاكتشاف الحبّ والحياة يقودها نهمها لتجريب كل شيء، وبين ذاكرة أتخمت بالحياة، وليس لها سوى الماضي والتذكر والتهرب سبيلا لمواجهة اندفاعات الحبّ الشقية، لنجد أنفسنا أمام صراع مغلّف بحبّ محكوم بعلاقة متوترة بين حبّ أوّل لفتاة تريد امتلاك كل شيء، بكل ما يعنيه الحبّ الأوّل من اكتشاف وتملّك وغيرة قاتلة، وبين حبّ رجل له من العلاقات ما يجعله يعجز عن معرفة دروب أبنائه الذين تركهم نطفا في أرحام نساء عاشرهن في الفنادق ومحطات المترو وأقبية بيروت، نساء لم يتوقفن في ذاكرته أكثر من لحظة عابرة، ليجد فجأة نفسه أمام مراهقة في الحبّ تريده كله، ولا ترضى بـأقله، وهو الرجل العصيّ على الامتلاك، والخارج على الترويض، فتكون سارّة المنبّه الذي يوقظ ذاكرته، ليسائل حياته، عبر سؤال يلح عليه طويلا: من أنا ؟ لِمَ لمْ أتزوّج؟


وداوها بالتي كانت هي الداء:
وفي سياق بحثه عن إجابة، تسعفه للهرب من خيال سارة، يجد نفسه دائما في أحضان راما، في غرفتها التي يفاجئها بها في أي وقت، ليغوص في جسدها، على وقع اتصالات سارة التي تثقل هاتفه بالرنين، فيجد نفسه مناديا راما باسم سارة، لينهض قبل أن يكمل نشوته، ويهرب مرة أخرى…يهرب من سارة ومن ذاكرة راما التي تحاصره، لنجد أنفسنا أمام شخصية هاربة، تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، شيء أضاعته ولم يعد بإمكانها العثور عليه، فينعكس شعورها بالفقدان والوحدة على كل شيء، عدا عن أننا أمام شخصية تعاني ازدواجية هائلة، فهي تريد حبّ سارة الكامل وإخلاصها، وفي نفس الوقت هي تهرب من حصار سارة، وتلجأ إلى أحضان راما وغيرها، ثمة نوع من إيديولوجيا الرجولة (التي خصص لها جورج طرابيشي كتابا حمل عنوان أيدلوجيا الرجولة في الرواية العربية) التي تبيح لنفسها باسم قيم رجولة سائدة، ما لا تبيحه للحبيبة، بل نراها تعيش هاجس لحظة الخيانة قبل حدوثها، وتتنبأ بها، لتدفع الحبيبة من حيث لا تدري إلى خيانة حقيقية هذه المرة، فتزداد العلاقة التباسا وتوترا.


إذن نحن أمام شخصية، حرة ومقيدة، شكاكة ومتسامحة، ويبدو الشك واضحا من خلال مراقبته سارة التي بدأت دروسا في مدرسة الرقص، فإن تحدثت عن أستاذ الرقص، سألها سؤالا يشي بغيرته، وإن وقفت مع مدرس الجامعة رأى في نظرات المدرس شيء يقوده إلى الشك بسارة، وإن رقصت مع أحد في محترف عيسى الذي يجمع شخصيات الرواية، تشتعل فيه الغيرة ليهرب ويترك سارة بين عيون رجال تلتهم جسدها وتفترسه.


انتظار اليائسين:
في الرواية، ثمة انتظار ما تعيشه كل الشخصيات، انتظار لا أحد يعرف أنه يعيشه، ومن يعرف لا يعرف ماذا ينتظر، وكأن الحياة في سيرورتها ما هي إلا انتظار، يوقظنا منه حدث ما، بحجم انتحار "يحيى" الصحفي الذي يعيش حياة مأزومة، نتيجة سلسلة من التغيرات التي دخلت عالم الإعلام وجعلت من الصحفي مجرد بوق لأصحاب المال بعد تحول الوطن إلى شركة يتقاسمها التجار الذين يتنافسون على تمجيد أولياء نعمتهم، فيجد نفسه محاصرا بين ماضيه اليساري وبين لقمة خبزه التي تحاصره بها مديرة لا تفقه في الإعلام أكثر من فقهها بتدبير الشؤون الليلية لسادتها الجدد، ليجد نفسه أمام لازمة يكررها يوميا: سأقدم استقالتي غدا، وأنشر بيانا أفضح فيه أولاد الكلب! ليمر اليوم التالي ويتابع يومه كما سبقه، إلى أن تحصل سهرة الرقص التي ينهض فيها سميح الذي يعاني عرجا في قدمه، ليسبح في فضاء الرقص، محلقا مع سارة التي تفتك بقلب سليمان الشكاك، وبين نشوة تضيء عجز يحيى الذي ينتبه إلى ضعفه وهشاشته، فيحمل مثقبا ويضعه في قدمه، لتتحول حفلة الرقص إلى ما يشبه مأتما برسم التأجيل، الذي ينتظر انتحار يحيى الذي لن يطول، لنكتشف أن الشخصيات كلها تعاني يأسا مزمنا لا شفاء منه، يأسا لا يغيبه حضور الموت، ولا أغطية الفرح والرقص الخادعة، لتغدو هذه الشخصيات معادلا لوطن مهزوم، يستر عريه ويأسه تحت أقنعة متعددة ومتراكمة.




موت وخيانة!
في الطريق إلى دفن يحيى، يجد سليمان نفسه عاجزا عن متابعة الطريق خلف جثمان صديقه، فيقرر في لحظة مجنونة ترك سارة برفقة عيسى وأمل وسميح ليتابعوا طريقهم خلف الجثمان، وليذهب هو باتجاه ذاكرة أخرى، وسط احتجاجات سارة الباكية على تركه لها برفقة سميح الذي يتشهاها جسدا، ولن يتوانى عن قطف أنوثتها في لحظة ضعف تكشف عن خساسته حين يفتح هاتف سارة الذي يرن وهي في فراشه، حين يتصل بها سليمان ليدعه يسمع صوت شهقاتها في فراشه، وليغلي قلب سليمان بفعل غيرة تقوده إلى التفكير بقتلها، ليجد نفسه أمام راما سائلا إياها عن كيفية قتل جوزافين لزوجها، دون أن يعرف المحققين بذلك إلا من ثرثرتها هي!
وجوزافين هي صديقة راما التي قضت أجمل سنوات عمرها في السجن بتهمة الانتماء إلى حزب يساري محظور( أغلب الظن أنه رابطة العمل الشيوعي)، والتي تستحضر السجن معها في كل لحظة، لتغدو حياتها سجنا من نوع آخر، حيث تزورها صديقتها جوزافين، بشكل دائم في غرفتها المتواضعة، مما يجعل سليمان يهرب من ثرثرتها، ليعود إليها.


البحث عن الحب الأول واكتمال الدائرة:
ولأن راما كانت دوما تتساءل عن سر عودته الدائمة لها، وهو دوما يهجس بجرح من الماضي لم يندمل بعد، مما يجعل الطرفين يبوحان في لحظة صفاء، ويكشفان عن ماض جعل قلبيهما على طرفي نقيض، وحاضر جمع جسديهما بعد أن تفتت قلباهما بتجارب الحياة، ولم يعودا قادرين على الالتحام.
سيكشف سليمان لراما، أنه عشقها حد الجنون، حين كانت طالبة في كلية الهندسة، وأنه كان ينتظرها على أبواب الجامعة وفي مفارق الحارات التي تمشي بها، ليبدو أن الأمر فعل صدفة ما، ولكن راما لم تكن تعيره انتباه لأنها كانت غارقة بحبّ شاب نيجيري، كان يقيّد سليمان ويمنعه من الذهاب بعيدا في مجازفته، وحين أدرك سليمان أن حبه لراما ميئوس منه، هرب إلى آخر أصقاع الأرض، وعاشر نساء الفنادق ونساء الطبقات الراقية، عله ينسى، وحين لم يتمكن من النسيان، عاد ليجد راما في السجن.


وبدورها ستكتشف راما في السجن، أن سليمان الذي لم تكن تعيره أدنى انتباه خارجا، يحتل حيزا كبيرا من ذاكرتها، إلى درجة أنها تستدعيه ليساكنها زنزانتها برفقة جوزافين، لنصبح أمام حبّ معطوب غير قادر على الاستمرار بعد التقائهما من جديد بسبب الجروح العالقة في روحين عبثت بهما الأقدار، وليبقى سليمان يفتش في كل جسد عن روح راما التي لم يشف منها بعد.
هذه المكاشفة بين سليمان وراما، ستضيء لنا سرّ سليمان و قلقه الدائم وعدم استقراره، لنغدو أمام شخصية مجروحة عاطفيا وإنسانيا.


ورغم الشغف الذي يلف الرواية، ويجعل قارئها مفتونا بها حتى النهاية، إلا أنّ ثلاث قضايا تبدو أنها تعاني خللا ما، فمثلا يبدو انتحار يحيى غير مقنع روائيا، وكذلك خيانة سارة، رغم أن فعل الخيانة أدى فعله دراميا في كشف خبايا سليمان ونوازعه الداخلية للتفكير بقتل سارة، فإن خيانة سارة ونومها مع سميح لم تكن مقنعة، فنحن لم ندرك لم قامت بذلك، خاصة أنها لا تحبه وغير معجبة به، بل تكن له كرها دفينا، مما يجعل فعل الخيانة غير مبرر!
وكذلك الأمر بالنسبة للنهاية، التي تبدو أنها صادمة خاصة أن سارة بعد انتهاء دورتها في الرقص تقوم بدعوة كل الأصدقاء إلى مرسم عيسى، لترقص وحدها، ثم تشعل المرسم بمن فيه.


مهما يكن، فإن الأهم من ذلك كله، أن نبيل الملحم دخل نادي الرواية الذي نأمل ألا يبرحه كعادته في اللااستقرار في فضاء مكاني أو إبداعي، ولعل كتابته روايته الثالثة حتى الآن، تشي بأنه وجد مستقره بعد أن غادر منطلقه منذ عقود طويلة!

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...