أربعة أفلام عن اعتداء 11 أيلول.. أن تكون عربياً في المعتقل أو أميركياً في الطائرة
يُمكن القول، ببساطة، إن المقاربات السينمائية الأولى لجريمة الاعتداء الإرهابي (على الولايات المتحدّة الأميركية في الحادي عشر من أيلول 2011) تمّت بفضل سينمائيين أوروبيين. الفرنسيون أولاً، ثم البريطانيون، ومعهم عربٌ مقيمون في الغرب. ليس تفصيلاً عابراً، بل تأكيداً على أن الأميركيين شعروا بصدمة شلّت قدراتهم العقلية والنفسية والروحية، وجعلتهم عاجزين عن قول أي شيء. لكن المسافة الجغرافية (وغيرها أيضاً) الكبيرة بين ضفّتي المحيط الأطلسي لم تحل دون إقدام الأوروبيين (البريطانيين تحديداً، علماً أن بريطانيا كانت الدولة الأوروبية الأكثر ارتباطاً أعمى بسياسات الولايات المتحدّة الأميركية، مرافقة إياها في مغامراتها الدموية، بحجّة «الحرب على الإرهاب») على الاشتغال السينمائي حول الجريمة، رغبةً منهم في فهم ما جرى: أنتونيا بيرد و«خلية هامبورغ» (2004). بول غرينغراس و«يونايتد 93» (2006). مايكل وينتربوتوم و«الطريق إلى غوانتانامو» (2006). سمير نصر و«بذور الشكّ» (2005). آخر هؤلاء ألماني من أصل مصري. أفلامهم تنويعات سينمائية امتلكت شرطها الإبداعي. لا اتّهامات ولا عنصرية فيها، بل محاولة جدّية لجعل السينما، وإن اقتربت إلى المنحى الوثائقي في شكل روائي في أحيان عدّة، مرآة الواقع وتفاصيله. لا خطابيات فجّة ولا تغاضي عن بؤس الجريمة ومرتكبيها، من دون إهانة أو تزلّف، بل مسعى واضح إلى تحويل المعطيات الحقيقية إلى نتاج سينمائي يحترم مفرداته الفنية والتقنية. قليلة هي تلك الأفلام، لكن مضامينها الدرامية المشغولة بحرفية لافتة للانتباه (توثيق، معلومات، معطيات) جعلت النصّ السينمائي أجمل وأهمّ، لأن المخرجين بذلوا جهداً إبداعياً واضحاً كي يحوّلوا المعطيات المتوفّرة لديهم إلى صنيع سينمائي. الحكايات لديهم حقيقية وموثّقة. غير أن المتخيّل الإبداعي حاضرٌ بفعالية.
أشكال وثائقية
تناول «خلية هامبورغ»، بلغة وثائقية سينمائية مغلّفة بشكل روائي، سِيَر المشاركين في الاعتداء الإرهابي، الذين شكّلوا ما يُعرف بـ«خلية هامبورغ». استعاد «يونايتد 93» الساعات القليلة والأخيرة في حيوات ركّاب الطائرة الرابعة بقيادة اللبناني زياد الجرّاح، التي فشلت في مهمّتها (الانقضاض على البيت الأبيض)، بسبب انقلاب الركّاب على الخاطفين، إثر ورود أخبار إليهم عبر هواتفهم الخلوية عن العمليات الثلاث السابقة (برجا «المركز العالمي للتجارة» ومبنى «بنتاغون»)، وسعيهم إلى الخلاص من الموت المحتم، الذي كان لهم بالمرصاد، بعد أن «نجحوا» في تبديل وجهة سير الطائرة على الأقل، ما أدّى إلى سقوطها في سهول بنسلفانيا في نهاية المطاف الأليم. تطرّق «الطريق إلى غوانتنامو» إلى مسألة السجن الذي أقامته السلطات الأمنية الأميركية في الجزء الأميركي من جزيرة كوبا، والذي «استضاف» عناصر من تنظيم «القاعدة» و«حركة طالبان» وجماعة أسامة بن لادن، المتّهم الرئيس في الاعتداء، بتصويره قصّة حقيقية عن أربعة شبّان يسافرون إلى بلدهم الأم باكستان لحضور حفل زفاف أحد أصدقائهم، لحظة وقوع الجريمة. لكن، يُلقى القبض عليهم في باكستان بتهمة الانتماء إلى التنظيم الإرهابي المذكور، قبل أن تظهر براءتهم بعد عامين ونصف العام من المرارة والتعذيب، فيخرجون إلى «الحرية»، باستثناء واحد منهم قضى جرّاء التعذيب. وحلّل «بذور الشكّ» جذور الصدام الانفعالي والثقافي الناشئ جرّاء شبهات عنصرية ومريضة حول طبيب عربي مهاجر إلى ألمانيا، أفضت (الشبهات) إلى تدمير منهجي وقاس لذاته وعائلته وعلاقاته بالآخرين.
أربعة أفلام أوروبية استلّت وقائعها من أحداث جرت فعلياً، لكنها ذهبت إلى السينما في محاولة جادّة منها للتنقيب عن مكامن الخلل الحاصل قبل الاعتداء المذكور وبعده. ذلك أن ما فعله المخرجون الأربعة هؤلاء نابعٌ من حرص ثقافي على فهم الخلفيات التربوية والنفسية والأخلاقية والثقافية التي صنعت من شباب عرب «انتحاريين» سدّدوا ضربة موجعة للولايات المتحدّة الأميركية، وللعالم كلّه أيضاً. والخلفيات تلك حاضرةٌ في بنى درامية وفنية وجمالية متفرّقة، اتّخذت من البُعد التوثيقي ركيزة أساسية للصنيع الروائي (خلية هامبورغ)، وجعلت الأحداث الواقعية متتاليات مشهدية مؤثّرة وحادّة («يونايتد 93» و«الطريق إلى غوانتانامو»)، وتوغّلت أكثر في المجال المتخيّل، انطلاقاً من معطيات حصلت في أنحاء شتّى من العالم، مع أنها لم تحصل فعلياً كما وردت على الشاشة الكبيرة (بذور الشكّ). التزمت أفلام غرينغراس وونتربوتوم وبيرد خطّاً موضوعياً، إلى حدّ بعيد، في مقاربة الأحداث المختارة في مضامينها الدرامية. قدّم «خلية هامبورغ» لبيرد الشخصيات كلّها من دون أحكام مسبقة، بل بحرفية صحافية عالية وسليمة اشتهرت المخرجة بها، وروى الحكاية بتفاصيلها المتداولة في الأوساط المعنية، والمستخرجة من عمل دؤوب لأشهر طويلة من البحث الأمني والاستخباراتي وجمع المعلومات. في الإطار نفسه، تميّزت الأفلام الثلاثة هذه بتحرّرها من خطابية الانتقاد العشوائي والساذج، ومن الشتم والتقريع المجانيين، ومن الكليشيهات المسبقة. كما تميّزت بسعيها الفني إلى إنجازٍ بصري قادر على تصوير اللحظة بحذافيرها المؤلمة والمتوترة.
وقائع
قبل التوقف عند «بذور الشك» لسمير نصر، لا بُدّ من قراءة نقدية للأفلام الثلاثة. اختار بول غرينغراس تفاصيل ما جرى داخل الطائرة الرابعة، بعد أن جمع المعلومات من أقارب الضحايا الذين، قبل موتهم، أجروا اتصالات هاتفية بهم، وأخبروهم أموراً كثيرة عما حصل. واعتمد، بتصويره الحكاية داخل الطائرة (مع مقدمة ضرورية، كشفت الاستعدادات المختلفة، الخاصّة بطاقم الطائرة والفريق الانتحاري ومركز المراقبة في المطار)، على حركة مرتبكة للكاميرا، خصوصاً في اللحظات الأخيرة قبل سقوطها، في محاولة بصرية لإثارة التوتر والقلق في نفوس المشاهدين وانفعالاتهم. وهذا ما حصل، إذ عبّر مشاهدون عديدون عن هلعهم وتأثّرهم، في آن واحد، إزاء ما شاهدوه على الشاشة الكبيرة؛ إلى درجة شعورهم بأنهم كانوا داخل الطائرة. شعورٌ كهذا ألمّ بمشاهدي «الطريق إلى غوانتانامو» أيضاً، وإن بدرجة أقلّ. فالسجن أشبه بالطائرة، لأن المعتقلين الأربعة فيه يشبهون ركّاب الطائرة، لبراءتهم وتحوّلهم إلى ضحايا. شعورٌ كهذا أصاب مشاهدو «خلية هامبورغ»، لأن الفيلم تابع وقائع تشكيل الخلية، ولاحق أعضاءها في تحوّلاتهم وغرقهم في التزاماتهم الدينية والعقائدية، ورافق المحطّات المختلفة التي مرّوا بها، قبل بلوغ بعضهم «المختار» مرتبة «النخبة» التي نفّذت، بقيادة محمد عطا، العمليات الانتحارية الأربعة. في هذا الفيلم، برز زياد الجرّاح أيضاً، وإن بطريقة مختلفة تماماً عن ظهوره في «يونايتد 93»: ففي هذا الأخير، اختار غرينغراس الفصل الأخير من المهمّة، ولم يتورّط في أي تحليل نفسي أو تربوي أو ثقافي أو ديني أو عقائدي خاصّ بهذه الشخصية، وبالشخصيات المرافقة له. بينما غاص «خلية هامبورغ» في التفكيك السينمائي للمكوّنات التي صنعت الانتحاريين جميعهم، وللمراحل التي مرّوا بها قبل انطلاقهم في تنفيذ المهمّات. بهذا المعنى، أفرد «خلية هامبورغ»، لضرورة التقيّد بالمعطيات الحقيقية، حيّزاً أكبر لزياد الجرّاح، من حيّزه في «يونايتد 93»، لاختلاف المبنى الدرامي والسرد الحكائي. والحيّز الكبير للجرّاح في فيلم أنتونيا بيرد ظلّ شبيهاً بالحيّز المعطى للشخصيات الأخرى، التي انضمت إلى الخلية المعروفة تلك.
أما قصّة «بذور الشكّ»، فقابلة لأن تكون حكاية أناس كثيرين، وجدوا أنفسهم، فجأة، في موقع الاتهام بجريمة لم يرتكبوها، وذلك لأن تهمتهم الوحيدة كامنةٌ في أنهم عربٌ، بل في أنهم مسلمون تحديداً. والقصّة، إذ روت تفاصيل التحوّل في علاقة زوجين بعضهما ببعض، استندت إلى تحليل نفسي/ اجتماعي للبيئة المحيطة بالشخصية الرئيسة، في مجتمع غربي (إحدى المدن الألمانية) أصيب بهلع شديد، بعيد وقوع جريمة الثلاثاء الأسود، من كل من هو عربي أو مسلم. وعلى الرغم من أن زوال الشبهات وتراجع المتّهمين عن اتهاماتهم «العنصرية»، حرّر الشخصية الرئيسة من عزلة فُرضت عليه؛ إلاّ أن الشكّ قاتلٌ، والبراءة وحدها لا تعني استقامة جديدة للأمور. قصّة «بذور الشكّ» عادية للغاية، بالمعنى العام للحبكة. فالطبيب الشاب يُحاصَر تدريجاً بسبب شُبهات غذّتها عنصرية بعض المحيطين به، وتصرّفات بعض آخر. والأبشع من هذا، وقوع زوجته ووالدة ابنه في الشكّ، على الرغم من علاقة الحبّ القوية التي ربطتها به، خصوصاً أنها كافحت طويلاً ضد ذويها، من أجل هذين الحبّ والزواج. والتهمّة التي أثيرت ضده، بسبب تصرّفات غريبة لا أسس واضحة وثابتة لها، نابعةٌ من صدف عدّة نشأت من سلوك الطبيب ووقوع أحداث عنفية ودموية في مدن أخرى، في لحظة غيابه عن المنزل العائلي والمسشتفى حيث يعمل. والسؤال الذي طرحه الفيلم كامنٌ في موقع العربي داخل المجتمع الغربي، ومكانته الإنسانية والأخلاقية، في مرحلة التحوّل الخطر الذي شهدته بدايات القرن الواحد والعشرين هذا.
بعد أسابيع قليلة، تحلّ الذكرى العاشرة للاعتداء الأصولي الإرهابي على الولايات المتحدّة الأميركية، الذي دشّن عهداً جديداً من الصراعات الدولية. أسئلة كثيرة لا تزال ملتبسة ومعلّقة وسط التحوّلات الخطرة التي شهدتها العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين. أسئلة ازدادت التباساً وغموضاً وتوهاناً، بعد «اغتيال» أسامة بن لادن.
هنا، مقتطفات من دراسة طويلة بعنوان «جريمة الحادي عشر من أيلول 2001 على الشاشة الكبيرة»، منشورة في كتاب جماعي بعنوان «الإرهاب والسينما: جدلية العلاقة وإمكانات التوظيف»، بإدارة تحريرية للزميلة ريما المسمار وأحمد الزعبي، صادر عن «مدارك» (بيروت).
نديم جرجورة
المصدر: السفير
التعليقات
انتظرونا بعد انتهاء الأزمة السورية.
إضافة تعليق جديد