أوروبا: عملية «كوماندوس» سياسية لإنقاذ دي ميستورا
خلف الإلحاح على مبادرات إنسانية عاجلة، تُصاحبها سلّة خيارات سياسية يدرسها الأوروبيون، يقف الهدف غير المعلن: الحفاظ على مهمة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستوار، بما يعطيها رصيد فعالية، يُجنّبه إعلان الاستقالة، مع كل ما يتبع ذلك من تسليمٍ بأن القضية رهن الحسم العسكري وحده. مهمةُ المبعوث الدولي باتت في غرفة العناية السياسية الفائقة، ما حمل مسؤولين أوروبيين على التحذير من أن إفلاس مهمته مرفوض، لأنه سيكون بمثابة إغلاق رسمي لمسار الحلّ السياسي.
مغادرة الأميركيين والروس غرف تفاوضهم المغلقة كانت نذير شؤمٍ كبير للوسيط الدولي، جعلت مهمته تواجِه جدياً، للمرة الأولى ربما، مصير سابقيه كوفي أنان والاخضر الابراهيمي. الثلاثة لقوا دعماً متواصلاً من الاتحاد الأوروبي، لكن مهمة دي ميستورا عمرّت أطول من سابقتيها، متخطيةً حاجز السنتين. المأزقُ ليس في قطيعة القطبين الدوليين، بحدِّ ذاتها، بل في نتائج التعويل على الحسم العسكري بما يعني تغيير التعادل النسبي، بما بُنِي عليه من إطار سياسي حول تقاسم السلطة تحت مظلة «هيئة الحكم الانتقالي».
المخاوف أكدتها مصادر أوروبية تحدثت، مشددةً على أن هناك «جهداً مكثفاً» لإنقاذ مهمة المبعوث الدولي، قبل أن توضح أنه «بالتأكيد لا نريد أن يجد دي ميستورا نفسه أمام خيار واحد هو الاستقالة، نريد أن يكون لديه مجال للتحرك ومبادرات يمكنه العمل عليها».
أكثر من يُدرك حرجَ المخاطرة بمهمة الوسيط الدولي هم الأوروبيون، فلطالما وقفوا لدعم مهمتي أنان والابراهيمي، ليزيدوا ذلك بمواكبةٍ دافعة لمهمة دي ميستورا. عبر الحيز الذي أتاحه وضع الملف السوري على طاولة التفاوض، بما يعنيه من إحياء لعمل الوسيط، كان الأوروبيون قادرين على لعب دور يفضلونه في المستوى السياسي، عدا افتقادهم التأثير حينما ينتقل التركيز إلى المستوى العسكري.
فوراً، استشعرت الخارجية الأوروبية الخطر على مهمة دي ميستورا، بعد إعلان إغلاق القناة الديبلوماسية الأميركية ـ الروسية حول سوريا. مصادر أوروبية متابعة للقضية قالت إن الجميع كان يضعُ قلبَه على يده، حينما سربت أوساط المبعوث الدولي أن في جعبته كلاماً حاسماً. تقول المصادر «كان الجميع يخشون أنه ربما يفكر في إعلان الاستقالة».
كانت تلك التكهنات المتشائمة قد بدأت بالانتشار لتتزايد قبيل مؤتمر صحافي للوسيط الدولي، سارع لعقده بعدما بات الملف رهينة إيقاع ما بدا قراراً روسياً نهائياً بالحسم العسكري في حلب. لكن دي ميستورا وجه رسالة واضحة لمن توقع استقالته بتأكيده «لن أتخلى عن الشعب السوري»، رامياً على الطاولة إمكانيتين تُبقيان عمله على قيد الفعالية: إنقاذ حلب، بإخراج مسلحي «النصرة» (المعاد تسميتها «جبهة فتح الشام») من عجينة فصائل المعارضة المسلحة شرق حلب، مع عمل متزامن على إدخال عاجل للمساعدات الإنسانية.
قبل أن يخرج دي ميستورا على منبر ينقذ مهمته، بما هي عملٌ أوكسجينُه الحيز السياسي الذي يتيحه الأميركيون والروس، كانت الخارجية الأوروبية تبعث برسائل واضحة أنها ترافقه «خلال هذه الساعات»، في إشارةٍ لأنها أحد المحركات الرئيسية لمهمة «الكومندوس» السياسية هذه. طرح إجلاء «جبهة النصرة»، عبر وسيط دولي، لم يكن أقل من ذلك، طرح الأوروبيين ما يشبه عملية «كوماندوس» إغاثية، حينما أطلقوا مبادرة لقوافل إنسانية لا تتطلب إعلان هدنة، بل مجرد «ضمانات الحد الأدنى» لعبورها.
الأوروبيون يعملون على إنجاز المبادرة الإنسانية، بعد ردود إيجابية من طهران وموسكو ودمشق، مع العلم أن الجيش السوري أصدر، بعد ثلاثة أيام على المناشدات الأوروبية، بياناً لافتاً يتحدث عن «تقليص» الضربات الجوية والمدفعية لأغراض إنسانية. الجزء السياسي من عملية إنعاش مهمة المبعوث الدولي ستكون حاضرة خلال اجتماع سيقام يوم الاثنين لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي.
الطبيعة الإنقاذية لهذه المباحثات أكدتها وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغيريني، موضحةً أن المخاطر تتعلق بفقدان الأمل من إمكانية الحلّ السياسي. أعلنت خلال مؤتمر صحافي الاثنين أن الوزراء الأوروبيين سيناقشون «بعض الخيارات التي يدرسها الاتحاد الأوروبي.. من أجل محاولة تسهيل أن مجال (التحرك) السياسي سيتمُّ الحفاظ عليه، لأن أسوأ ما يمكن أن يحدث الآن هو أن يتم الإغلاق المؤكّد للمجال السياسي من أجل حلٍّ سياسي، ويبقى الصوت فقط لصوت السلاح»، قبل أن تُشدد «هذا شيء لا يمكننا السماح به.. والاتحاد الأوروبي جاهز للقيام بقسطه في القنوات الديبلوماسية والسياسية، وأيضاً القناة الإنسانية».
الأجواءُ المشحونة، المحيطة بحساسية المبادرات الإنقاذية هذه، يبدو أنها فَرضت في بروكسل الصمتَ على أوساط الخارجية الأوروبية. المحيطون بموغيريني يتجنبون أي تعليق، حتى أنهم يخشون تكرار الرسائل السياسية التي حملتها تصريحاتها. موغيريني نفسها تدرك تخفيض السقف سعياً لإنجاح إيصال المساعدت، إذ قالت «لا نقبل أن يكون وصول المساعدات الإنسانية مشروطاً بالإخلاء العسكري والسياسي، لكن مع الصور والقصف في حلب، يجب أولاً، وقبل كل شيء، أن نحضر المساعدات الإنسانية».
الحساسيات ليست أقل بالنسبة للجزء السياسي من عملية إنعاش مهمة دي ميستورا. لم تمض ساعات على إعلان مبادرته حول إخراج «النصرة» حتى دفع الجناح الخليجي، من حلفاء «المعارضة»، إلى إدانتها عبر بيان لـ «الحكومة السورية المؤقتة» يطالب الأمم المتحدة بـ «إقالة» دي ميستورا، متهمة إياه بأنه ارتكب «خطيئة أمنية كبيرة» لأنه قدم لموسكو وحلفائها «مبررات للاستمرار في عدوانهم». تشكيلات «المعارضة» السياسية الأهم، سواء «الائتلاف الوطني» أو «الهيئة العليا للتفاوض»، التزمت موقفاً حذراً، فيما تقول مصادر مطلعة إن بعض القيادات المعارضة يدعم مبادرة المبعوث الدولي لكنها تفضل إيصال رسائل بذلك دون إعلانه.
لأن إنقاذ مهمة دي ميستورا بات يتطلب ما يشبه «عملية الكوماندوس»، فمقياس المخاطر مرتفع. مصادر ديبلوماسية أوروبية ترافق هذه العملية قالت إنه «من دون عودة الروس والأميركيين إلى غرف التفاوض، لا أمل بالحلّ السوري، لن تكون هناك حظوظٌ كبيرة، لكننا لن نستسلم مع ذلك»، قبل أن تشدد «الأمر لا يدور حول شخص المبعوث الدولي، بل حول المهمة التي يعمل عليها، سنحاول كل جهدنا وهو يحاول كل جهده، لكن ليس هناك فرص كبيرة كما أن الوقت ينفد».
يبدو أن روسيا بدورها لا تريد لمهمة دي ميستورا هذه النهاية، للدقة وللتحديد ليس على يديها، مع حملة ستجعلها المسؤولة عن إفشال مساعي الامم المتحدة. الأمر لا يتعلق فقط بمبادرة وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى تأييد مبادرة دي ميستورا. دعم مهمة الوسيط الأممي مرت في فقرة، من بين ثلاث فقرات، لخّص فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موقف بلاده حيال الملف السوري، بما فيها الحديث عن دعمه مبادرة إغاثية لحلب مع بقاء «ضمان أمن الشحنات» مسألة عالقة.
إلى جانب مضيفه التركي رجب طيب أردوغان، قال بوتين (وفق الترجمة التي أوردها الكرملين): «وصلنا إلى اتفاق مع الرئيس التركي بأننا سنفعل كل ما في وسعنا لدعم مبادرة السيد دي ميستورا... بشأن الوحدات القتالية من حلب التي هي غير مستعدة لإلقاء أسلحتها من أجل وقف سفك الدماء».
رغم الاختلاف في مقاربة الملف السوري، لكن يبدو أن الاوروبيين وروسيا يلتقون هنا على إنقاذ الوساطة الأممية. في هذا السياق، نفت مصادر أوروبية بشدة أن تكون خيارات الأوروبيين تتضمن فرض عقوبات على موسكو. قالت المصادر معلقة على أنباء في هذا الشأن «لا أحد يتحدث عن عقوبات، ولا أشياء ملموسة في هذا الموضوع، كما أن هناك دولاً أوروبية رئيسية لا تدعم ذلك».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد