أيقونة الحامل العارية والظل الذي يصنع خصوصية الإنسان
عندما حدّد عمّار تاريخ معرضه في السادس عشر من شباط، توقع أصدقاؤه أن الصور التي التقطها في ليبيا قبل وأثناء الثورة وبعد مقتل الرئيس الليبي معمّر القذافي ستكون معلّقة على جدران غاليري «أيام». ستكون فكرة غريبة، أن تعلّق صور ترشح بخراب مطعّم برائحة الحرية، على جدران ذلك الغاليري الأنيق في الوسط التجاري. الغاليري الذي أقيم أصلاً في دمشق عام 2006، محرّراً الفنان السوري من القيمة الضيئلة لأعماله، من دون أن يعير ربما كبير اهتمام بقيمة تلك الأعمال فنياً وفكرياً وثقافياًً.
«أردت أن أعثر على شيء مختلف تماماً. البعض سيعتبره نضجاً والبعض سيرى فيه خفة أو سطحية، لكنني اخترت هذا الموضوع، لأن فكرته غريبة» يقول عمّار أثناء لقائنا القصير على هامش معرضه الجديد «قريباً». وليس عنوان المعرض سوى مفردة جذابة ودقيقة. خاصة في هذه المرحلة التي يرزح فيها كثيرون تحت وطأة الصمت، وطأة الانتظار. قريباً. ويترك عمّار للمتلقي الحرية في أن يستخدم تلك المفردة في عبارة يختارها.
تقف جنى عارية إلا من حلق يتدلّى من سرّتها. بطنها يستدير أمامها. يبرز بوضوح وهي في شهرها السابع أو الثامن ربما. بروزه موجع. وكأن الظلال يصبح شفيفاً. والصورة الجامدة، تنبض بجنين متكور على نفسه. تقف جنى عارية تماماً. بوضعية الاستعداد في صورة. والتأهب في صورة أخرى. تتمدد على ظهرها. ثم تباعد ساقيها وكأنها تمشي. تلملم خصل شعرها أحياناً. وتتركها تنسدل على ظهرها أحياناً أخرى. «أحلم بولادة جديدة لي أو ربما للشعوب والأوطان». يقول عمّار جملته هذه ويصمت. يأخذ رشفة من فنجان الإسبريسو ويشرد. ثم يضيف: «في مجتمعنا العربي، ثمة انطباع بأن المرأة الحامل بشعة. وبأن الاستدارات العديدة التي تلفّ جسدها، تحوّلها إلى كائن غير مرغوب فيه. البعض يجرّد المرأة الحامل من أنوثتها. وكأن الحياة التي تنمو في رحمها، تقتلها. وما أن تضع طفلها وتصبح أمّاً حتى تنتهي كأنثى مشتهاة». فكرة المعرض لا تخلو من الغرابة. خاصة أن المرأة الحامل تكتسب مع استدارة بطنها، قدسية عجيبة. وكأن عمّار اختار في زمن الثورات، أن ينزع عنها تلك القدسية. أن يعرّيها من الاختزال. يقول عمّار: «على العكس تماماً، البعض يرى أنني منحتها جرعة إضافية من القدسية. وأنني ربما حوّلتها إلى أيقونة، إلى إله للخصوبة». وعلى الرغم مما تحمله الفكرة من جرأة وشجاعة، إلا أن اختيار عمّار لتقنية الخيال أو الظلال، تعطي الانطباع بأن الجرأة ناقصة. وأن ثمة خجلا أو ترددا يختبئ وراء ذلك العري. عمّار يعتقد أن الظلال تحمي خصوصية الإنسان. ومن جهة أخرى، يترك للخيال مساحة أرحب في التقاط التفاصيل. والظلال هنا، تدفع النساء لرؤية أنفسهم في الصورة.
يستغرب عمّار ردود فعل بعض وسائل الإعلام العربية واللبنانية. فقد ظهر على شاشة إحدى الفضائيات اللبنانية على الهواء مباشرة ليتحدث عن معرضه، من دون أن تعرض له ولا صورة واحدة من ذلك المعرض! «أستغرب الإشكالية التي يفرضها الجسد في الوطن العربي. وأستغرب أن ترفض فضائية ما عرض هذه الصور، في الوقت الذي لا تتوقف فيه عن عرض مشاهد الدمار والذبح والقتل، وهي مؤذية أكثر بكثير من هذه الصور. حتى الأفعال السياسية لبعض الزعماء، تسبّب أذى أكثر بكثير من العري».
المعرض الذي افتتح مساء يوم الخميس الماضي، حضره كثيرون. وبالتأكيد، اختلفت ردود الفعل بين شخص وآخر. بعضهم جاء من دمشق، ليشارك عمّار «احتفاله» بمعرضه الجديد. وبعض اللبنانيين الذي حضروا ذلك المساء، سافروا السنة الفائتة إلى دمشق لحضور افتتاح معرضه في المركز الثقافي الفرنسي في حي البحصة وسط المدينة. وبين دمشق وبيروت، الطريق كان صعباً ومحفوفاً بالثلوج والرعود. الفنان السوري صفوان داحول، وصل ملتاشاً إلى الافتتاح بعد أن تعرضت السيارة التي تقله إلى حادث صغير. سألته عن رأيه بالمعرض. ابتسم ابتسامته الهادئة والطفولية. صمت للحظات وكأنه يفتش عن الكلمات المناسبة التي تبرّر دهشته. يعتبر داحول أن المعرض هذا كان خطوة كبيرة يقوم بها عمّار. لكنها خطوة بلا مقدمات. لم يمهلنا عمّار. لم يهيّئنا لهذه النقلة. وصفوان بطبيعته الهادئة والمتمّهلة حد الإفراط، بدا وكأنه لم يستوعب بعد هذا الكم الكبير، الفائض، من التغيير. علماً أنه يعشق جسد المرأة الحامل. وهو رسمها في أكثر من مناسبة عارية تماماً إلا من استدارة بطنها الملآن بالحياة.
لحظة في حياة الزعماء
وأحاول استدراج عمار إلى أماكن أخرى، أبعد من معرضه «قريباً».. إلى البعيد.. إلى الماضي الذي اشتغل فيه عمّار على فكرة اللحظة. لحظة في حياة الزعماء وزوجاتهم وضيوفهم. لحظة في حياة أشخاص يعيشون على هامش الحياة، في أطراف المدن الباردة والموحشة. وليست اللحظة تلك مجرد لحظة. إنها تاريخ موثق بالعين. وتراكمات. وابتسامة بريئة تفرّ من أفواه زعماء لا يبتسمون. الآن، كيف يعيش عمّار متخلصاً من عبء تلك اللحظة. هو الذي التقط صوراً للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. لمعمر القذافي. لملك الأردن. وآخرين كثر. «لم أمتلك حتى الآن، أي سوء نية في عملي. هدفي هو التوثيق. أن أكون شاهداً على اللحظة وأوثقها. أعرف أنني «أنسنت» العديد من الزعماء العرب. ربما لأنني أمضيت بصحبتهم بعض الوقت، صرت أرى فيهم الجانب الإنساني، بمعزل عن أي شيء آخر». أسأله إن كان يشعر ببعض الندم. «لا أندم على الإطلاق. ببساطة لأنني لم أغش حينها. قدمتهم كما رأيتهم وكما فهمتهم. البعض مثلاً كانت لديه تحفظات على صورة لمعمّر القذافي، لكنني لم ألتقطها لأمتدحه. والدليل، أن الصورة ذاتها، استخدمت في تظاهرات عدة تدعو إلى سقوطه العام الفائت». وهل يؤمن عمّار بجرعة خفيفة من الشرّ في تعامله مع شخصياته؟ مثل المخرج الوثائقي الذي يلتقط اللحظة، يأسرها، يدين عبرها شخصياته من دون أن يدينهم. أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم وتلك اللحظة الأسيرة هي التي تفتح الباب لإدانتهم. «أحترم عمل الوثائقي وأتمنى لو أمتلك القدرة على استخدام «جرعة الشر» هذه. إلا أن عمل الإعلامي يختلف تماماً عن عمل المخرج الوثائقي. الإعلامي المحترف، يحمل مسؤولية تقديم الواقع كما هو من دون تزويق. عليه أن ينفصل عن ذاته وعن مشاعره الخاصة. عليه أن يختزل نفسه ليصبح عين الكاميرا الحيادية والصامتة». لكنك عندما تختار شخصياتك، تختارهم بوعي وعن قصد. أي إنك لا تفقد مشاعرك كلياً. خيارك يفضح تلك المشاعر. رشفة قهوة جديدة، وابتسامة حزينة ويقول: «كلا، لم أخترهم بمشاعري. اخترتهم كسبق صحافي». وبعد لحظة تأمل، يتابع عمار: «بالتأكيد، يزعجني الأمر. أن يكون الصحافي أو الإعلامي مضطراً للانجرار وراء الخبطة الإعلامية والسبق الصحافي متناسياً مواقفه ومحيداً قناعاته».
وأرى أن بعض الأنظمة تستخدم المصوّر ليحبسها في الصور كأيقونات مقدسة. وليست الصور ولا التماثيل إلا من صنع فنان ما. «لم يقدني وعيي يوماً إلى تجميل أو تقديس الزعماء والسياسيين. لكنني أعترف بمكان، أنني استُخدمت للأسف في كثير من المواقف. في الوقت ذاته، تعرفين أن الجميع يخضع لسلطة ما. ويستخدم من قبل جهة ما. يستخدم للترويج لسيارة مثلاً أو لصورة عائلية أو لمشروع سياسي». وهل فكرت يوماً بتصوير الضفة الأخرى؟ هل فكّرت بتصوير الضحية أم اكتفيت بالجلاد؟ «لطالما حلمت بتصوير أقبية التعذيب وأولئك الذي احترفوا ممارسة العنف والقتل. استطعت ذلك في العراق بعد سقوط صدام حسين. وفي ليبيا أيضاً. وهنا، أريد البوح بأمر ما. لدي إعجاب كبير بأشخاص لم يحترفوا التصوير، لكنهم يوثقون الأحداث التي لم نتجرأ على الوصول إليها. والكثير منهم تعرض للإهانة والتعذيب والخطف والاعتقال، من دون أن يشار إليه في الإعلام. على عكس الصحافيين المعروفين. لذلك أطلق عليهم تسمية «المصوّر المجهول». ونحن مدينون لهم. إضافة إلى إعجابي بهم، أشعر بالحزن بعض الشيء. لأن التقنيات الحديثة وسهولة التصوير تفضي بنا إلى نهاية عصر التصوير الصحافي. صار بالإمكان الاستغناء عن الصحافيين». يعود عمّار إلى صمته الحزين وبختم بالقول: «أتمنى لو أكون في بلدي سورية. وقد يتفاجأ البعض بأنني كنت في ليبيا وقبلها في العراق ولبنان، ولست الآن في حمص مثلاً. ما أشد الإحباط الذي أشعر به. يمزقني إحساسي بالعجز لكن الظروف القاسية للتغطية الصحافية، تمنعنا للأسف من التواجد في كل الأماكن. هنا أرفع القبعة من جديد للمصور المجهول».
النحات السوري مصطفى علي، جاء أيضاً إلى بيروت خاصة لحضور معرض عمّار. مصطفى الذي يعتقد البعض أنه تنبأ بالثورات العربية قبل حدوثها من خلال معرضه الأخير في غاليري أيام في دمشق. المعرض الذي فاجأ الزوار بفيض من الوجع. رؤوس مقطوعة ومدمّاة. وحزن شفيف ينحني فوقها بإجلال. كان مصطفى علي سعيداً بحضور المعرض. وقد فتح أمامي أفقاً جديداً لاكتشافه. فقد رأى في الصور الثلاث التي تظهر فيها جنى متمددة على ظهرها، طبيعة أخاذة. رأى بطنها البارز، كجبل ترتخي وراء ظلاله الشمس في صورة خلفيتها صفراء، والسماء في صورة خلفيتها زرقاء.
أما المخرج والكاتب اللبناني فيليب عرقتنجي، المطلع على أعمال عمّار السابقة، فقد أدهشه هذا التحول الجذري في طريقة اشتغاله على الفكرة. ويقول إن الصور جميلة إلى جانب بعضها البعض. ولو أراد أن يقتني عملاً، لاقتنى ثلاث صور دفعة واحدة، لأنها تشكل تراكماً فريداً.
ديمة ونوس
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد