إبراهيم الجبين في «يوميات يهودي من دمشق»
في "يوميات يهودي من دمشق" الصادر حديثاً لدى "خطوات للنشر والتوزيع"، يدخل الكاتب السوري إبراهيم الجبين عالما شبه محظور في الرواية العربية، إذ يجعل شخصيات يهودية تتحرك في فضاء روايته خارج حضورها التقليدي والمألوف. اليهودي في الرواية العربية يحضر في صورة العدو، وغالبا في ساحة المعركة أو داخل المعتقلات الإسرائيلية بوصفه الصريح كمحتل يمارس القمع، فيما يقدمه إبراهيم الجبين مواطنا سوريا يعيش في دمشق، ويقدم من خلاله صورة الحياة اليومية لليهود السوريين، وبالذات في "حارة اليهود"، التجمع السكاني في المدينة القديمة، بكل خصوصياته وعلاقاته مع المحيط الإنساني. إنها قفزة نوعية تُحسب لهذه الرواية التي تتأمل الصراع العربي - الإسرائيلي من زوايا أخرى بهدف قراءة وعي هؤلاء المواطنين العرب الذين يعتنقون الديانة اليهودية وتفكيك الإلتباسات الفكرية والميثولوجية التي تحوطهم وتضعهم في "حالة خاصة" بحيث لا ينسجمون تماما مع مواطنتهم ولا ينفصلون تماما عنها. هي الأزمة الوجودية التي شكلت باستمرار جوهر "المسألة اليهودية" في بلدان العالم كلها، وكانت الأرض الفكرية التي دخلت من خلالها الحركة الصهيونية إلى وعي يهود العالم لإقناعهم بالتمايز أولا، ثم للتعبير عن هذا التمايز بصورة وحيدة هي أن يكونوا بقواسمهم الدينية المحضة شعبا له شخصيته الواحدة ومصالحه وتاريخه، أي بما يدفع الى إقامة دولة يهودية يستطيع اليهودي وقت يشاء أن "يعود" إليها بوصفه مواطنا كامل الحقوق ما ان تطأ قدماه أرض مطارها. هي فكرة "الأنا" و "الآخر" إذ تتحرك وفقها شخصيات من هنا فكأنها من "هناك". فالذي يحدد مسار الحركة هو الوعي، أو الوهم، وهم الإنتماء، ووهم الإختلاف الذي يذهب في محاولة تعبيره عن نفسه الى حدود قصوى لبلورة رؤاه وتصوراته والتعامل معها بوصفها حياة حقيقية وواقعا موجودا.
رواية إبراهيم الجبين "تناوش" ذلك الوهم، أو تستحضره الى شاشة وعي القارئ في لحظة تاريخية حاسمة هي لحظة امتحان الشخصية اليهودية مع "وعيها"، وكيفية اختيار مصيرها وانتمائها، لدى منحها حرية المغادرة أو البقاء في سوريا. وهي ليست بالتأكيد قضية بقاء أو هرب، لأن كلاً من الخيارين النقيضين يعني بالتأكيد حسم التردد التاريخي مع مفهوم المسألة اليهودية و"محنتها"، مرة والى الأبد: إما اختيار المواطنة والإنسجام معها وإما المغادرة الى العالم الخارجي بما في ذلك اختيار الدولة العدوة والإندماج في إطاراتها، أي اختيار الشخصية النقيضة للوطن الأم والإنتماء الحقيقي.
يصعب في رواية كهذه الإحاطة بالشخصية الروائية بوصفها نموذجا "قطعيا" أو نهائي الدلالة، لأننا أمام رواية وشخصيات روائية حدّد لها الكاتب خطوط وعيها. مع ذلك نقف طويلاً أمام إخاد، الشخصية اليهودية الرئيسية في الرواية، لنتأمل جاذبية السبك الروائي وشفافية الكاتب في استحضاره ملامح اليهودي الدمشقي وما يدور في خلده من أفكار. يحسن الكاتب حين يرى هذه الملامح ويرى معها صور الآخرين من أطياف المجتمع السوري، وبالذات محمد شوق الأصولي الذي "يجيد اللعبة"، في زمن تصاعد الأصولية والتطرف والحملة الأميركية على الإرهاب.
هي لوحة تنتظمها كتابة تأخذ شكل اليوميات، في ما يشبه حيلة فنية جميلة لتقريبها من الواقع الذي يسمح بملاحظة الجزئيات والتفاصيل الصغيرة بوصفها نثار وعي ونتف ثقافة تتحرك هنا وهناك في مناخ إنساني يقبع في خلفيته طاغوت جبار هو الصراع العربي - الإسرائيلي بكل تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على الجميع. يشمل تأثير هذا الطاغوت أبطال الرواية، حتى تلك المرأة التي تذهب الى "هناك" ثم تعود وقد أضاعت أنوثتها وبددتها، لتكتشف استحالة العودة الى اللحظة الأولى، لحظة الوجود الحقيقي هنا، والحب الذي كان والذي هو في الرواية كما في حياتها دلالة رمزية بالغة التعبير عن احتمال الاندماج في مجتمعها الأصلي.
في "يوميات يهودي من دمشق" ذهاب نحو الميثولوجيا في محاكاة موفقة لإحدى أهم مفردات الصراع، أو الى العنوان العلني للصراع كما تفهمه وتفسره الحركة الصهيونية وإسرائيل، وهي ميثولوجيا تستبدل بقصدية فكرة رؤية العالم بفكرة أخرى مهووسة بالبحث في التراب بل في أعماق التراب على أمل الوصول الى ما يمكّن الميثولوجيا من الإمساك بتلابيب الواقع وأخذ دوره ومكانه. الحفر في أعماق الأرض هو في معنى ما تدمير ما هو قائم فوقها، أي بوضوح أشدّ: تدمير الحضارة الإنسانية في سبيل ذلك الوهم الميثولوجي الذي يتحول في وعي أصحابه الى فكر له صفة القداسة.
نحن أمام قداسات تتناقض وتذهب بالصراع الى مداه النهائي. مع ذلك، تذهب بنا الرواية الى فكرة حقيقية جداً مفاده أنه رغم كل ما حدث ليس هناك ما هو حقيقي البتة في علاقة الميثولوجيا بالتاريخ أو بالراهن، ذلك أن المدن والمجموع البشري الذي يسكنها ويشكل مجتمعاتها ينتمي في الواقع الى الحياة ولا ينتمي الى الميثولوجيا.
أهم ما في الرواية هو تخلّصها الصائب من النظرة التقليدية الى اليهودي، ليس في الأدب العربي وحسب، ولكن أساسا في ذهن الإنسان العربي، وهي النظرة التي رسمت لليهودي ملامح ثابتة ونهائية لا تأخذ خطوطها من الحياة ولكن من رصيد الألم والمعاناة اللذين عاشتهما الشعوب العربية بسبب العدوانية الصهيونية وبسبب اختلاط النظرة الى حد التطابق بين مفهومي اليهودي والصهيوني. وهذا اختلاط قام أساسا بسبب من غياب الوعي الحقيقي لأبعاد الصراع العربي – الإسرائيلي، وأيضا بسبب ازدياد نفوذ الأفكار التكفيرية خلال سنوات العقد الأخير. ملامح اليهودي في "ثقافة" تقليدية بل نمطية كهذه، لا تكتفي بالجوهر السياسي بل تذهب الى منح اليهودي قسمات خاصة، بشعة ومنفرة، ناهيك بمنح صاحبها طباعا وعادات لا تتغير، وفي كثير من الأحيان سجن الشخصية اليهودية في عدد محدود من المهن ذات العلاقة بالحالة الربوية، من دون الخروج على هذا التنميط الى واقعية تستطيع رؤية اليهودي كإنسان، ومن ثمّ ملاحظة سلوكه وانتمائه، من أجل تحديد دوره في الصراع سلبا أو إيجابا. يحقق إبراهيم الجبين في روايته هذه قطيعة كاملة ونهائية مع هذه النظرة، ويحسن رؤية شخصياته اليهودية في إطار انتمائها الإجتماعي ووعيها الثقافي أيضا. وحسناً فعل عندما وضع لروايته "ملحقا" بالغ التكثيف يقول فيه: "لم تنته اليوميات ولكن تدوينها النهائي يكتمل في مكان آخر"، في دلالة لا تخفى الى استمرار الصراع.
راسم المدهون
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد